بريد الصباح الأخضر وصوت الأوطان!! فيروز.. حب العمل والإخلاص والتفرغ سر النجاح فالفن لا يحتمل شيئاً آخر معه
“البعث الأسبوعية” ــ المحررة الثقافية
احتفل العالم منذ أيام بعيد ميلاد فيروز، السيدة التي تناغي صباحاتنا فتوقظنا مثل نسمة، يتدفق صوتها غديراً من الوداد، نشيداً يملأ ملكوتنا جليل الوقع غامر الدفء، يسري برقته على أرواحنا بريقاً يضيء سجايانا.. يأتينا صوتها، كما الشمس تحيي عشبة داهمها صقيع الليل، يسري يخضورها الدافئ إلينا نغمات تناغي مسمعنا، تغني أسرارنا، تغمرنا بموسيقا أغانيها وتمنحنا طاقة من حب نستعين بها على لهاثنا اليومي. وحدها ابتسامتها التي تطل بها على جمهورها تعيد الثقة بكل مايدور في البال.
فيروز، هذا الصوت الذي شكّل قاسماً مشتركاً للذائقة الفنية العربية والعالمية، وأصبح بريداً أخضر يخترق حتى خصوصياتنا، ففي صفحاتنا الزرقاء هي مفتاح يعتمده كثيرون في التواصل مع أصدقائهم، يكسرون جليد الشاشة البارد بأغنية فيروزية يذيلونها بعبارة “صباحكم فيروزي”، وهم على يقين أن طلبهم إذا لم يستجب فهم على الأقل سيكونون زواراً دمثين، فتحيتهم فيروزية، تحية لا يغضب أحد منها، فـ “ما تفسده الأيام تصلحه فيروز”!
فيروز الحكاية، تأخذني عبر مسرحياتها وشخصياتها إليها، فكانت “زاد الخير” ناطورة المفاتيح للناس الذين أرهقهم الظلم، وغادروا بلدتهم، تلامس وجداني، فأشعر وكأنني أنا هي، ومرة أرى نفسي أشبه بـ “قرنفل” في “صح النوم” التي سرقت ختم الوالي لتختّم معاملات الناس، هذا الهاجس الذي لا يفارقني بتقديم المساعدة لمن يحتاجها؛ وبعد مدة من الزمن، اقتربت أكثر من “زيون” في “ميس الريم”، التي كانت تشعر بالظلم الذي يعانيه الناس وكأنها هي التي ظُلمت.. “زيون” البنت التي رافقها الحلم منذ الصغر، لكن مع مرور الأيام كان حلمها يتهدم دون أي فرصة لتحققه، وقذفتها الريح بالاتجاه الذي حددته لها، وكم شعرت بالقواسم المشتركة بيننا. وتختلف الحالة بيني وبين “ريما” التي عثرت على خاتمها لدى بياع الخواتم، بينما كانت الخواتم أصغر من أصابعي، وبقيت أنتظر خاتماً قد يأتي في زمن ما.
شخصية وردة في “المحطة” كانت الأقرب لي، إنها وردة الحلم التي اخترعت للناس حالة الانتظار المرافق للأمل القادم مع “الترين”، ومحطات السفر، وكلّ قطار لا بدّ له من محطّة يتوقّف فيها لنقل المسافرين إلى زمان مختلف، تتجدد فيه الحياة، بما ينسجم ورؤيتها خلاصاً من الرتابة والروتين الذي اعتاد عليه الناس. لكن، للأسف، عندما أتى القطار لم تتمكّن “وردة” من الحصول على تذكرة، لتبقى وحيدة في فضاء المحطّة تتصارع أفكارها ما بين وردة الحلم ووردة الواقع، تغني لـ “ليالي الشمال الحزينة”، و”وحيدة تؤلف عناوين لا تعرف لمين”، وتصرّ وردة الحلم على موقفها من مجيء القطار ومعاودة الانتظار، الذي هو بحدّ ذاته قيمة تنفتح على استمرارية الأمل واكتمال الشوق.
قالوا عنها
جمهورها الواسع توجه لـ “أرزة لبنان” بأرقى العبارات وأفضل التمنيات، واستذكر أغانيها من خلال فيديوهات ومقاطع من كلمات الأغاني الراسخة في وجدان الصغار والكبار، وعبّر فيها كل محب لـ “زهرة تشرين” عن مدى تعلّقه بفنها واشتياقه لها.
يعبر أحد معجبيها عن الحالة التي تشكلها فيروز لأسرته قائلاً: اعتاد أولادي، مثلي، ومثل أمهم، ومثل كل من ترى أعينهم، متى استفاقوا كل صباح، على سماع فيروز وهي تغني لوطن المحبة ولمحبة الوطن، حتى أصبحت محبتهم لها كمحبتهم لوطنهم التي تنبع كل يوم لتدوم.. حيث يبدأ النهار عمله بنشاط وتفاؤل وأمل، نجد فيروز ماثلة في كل السياقات، وكائنة في كل الأوقات، وحاضرة في الضمائر الحيّة، ساكنة للقلوب الدافئة، وماكثة قي العقول المستنيرة وجاهزة للحوار مع الآخر، لتصل إلى هدف “المحبة”، لتقول لنا غناءً ولحناً وكلمات “اجعلوها نبعاً، مدوها بينكم جسراً، لتكون لكم زيتونة دائمة الخضرة، تستظلون بفيئها وتأكلون من خيراتها المباركة والطيبة، جذورها صامدة كالمقاومة وفروعها ممتدة نحو الشمس تطاول عناء السماء أفقاً ورحابة وسعة”.
الصديق علي محي الدين أحمد كتب على صفحته مهنئاً لها بعيدها: ميزة الصباح أن الإنسان يكون فاقداً الرغبة في سماع أي شيء، ولكن حنجرة ملائكية حولت نهاد حداد إلى فيروز، جعلت من الصباح فيروزياً.. فيروز الاسم الذي اختاره لها حليم الرومي والد ماجدة مخيراً إياها بين فيروز وشهرزاد. وربما كانت تعرف أنها ستصبح أجمل حكاية للفن، بل وتقدم تلك الصورة الأسطورة عن إنسانة لم تعد مجرد مطربة لها زهاء الألف أغنية، وإنما التجسيد الأرقى لمشروع عاصي ومنصور في خلق فن للبسطاء وأغنيات يسمعها الغني والفقير.. فيروز هي حالة للتماهي بين الإنسان وفنه للوصول به إلى أن يكون أسطورة تحتذى. وأتساءل في قرارة نفسي: لماذا أحب فيروز؟ ليأتيني الجواب: لأنها صوت أمي حين كانت تغني لي “يا كرم العلالي عنقودك لنا، ويا حلو يا علي شو بحبك أنا”.. لأنها ابتسامة أبي على فطور صباحي حين كانت تشدو “قالوا العدى قالوا”.. وقتها قال لي أبي: “سامع فيروز، الله ما خلق متلا” مع أن أبا علي كان من مدمني فؤاد غازي وإبراهيم صقر وصالح رمضان.
وأضاف علي: فيروز غنت لي “عودك رنان”.. فيروز أنجبت العظيم زياد الرحباني، فيروز التي حين ترتل في الكنيسة يصبح الصوت موسيقا، فيروز في الفن كتلك الزيتونة اللاشرقية واللاغربية، هي صوت الصباح، هي من ينبهنا لعودة أيلول، هي من أعطى أشعار طلال حيدر وجوزف حرب بعداً آخر، هي من نحتفل بعيد ميلادها كل سنة لنعتذر من سعيد عقل، ففيروز ليست سفيرتنا إلى النجوم، بل هي ذلك الكوكب الدري الذي يجعل حياتنا أقل بؤساً.. فيروز كل عام وأنت قمر مشغرة وبدر وادي التيم.. كل عام وأنت فيروزتنا الحلوة، عقبال مليون سنه يا أمي.
حرصت فيروز على أن تنأى بنفسها عن الأحداث السياسية، لتجعل الفن يسمو بذلك على ما عداه، ولتكن مطربة الأوطان والشعوب، رافضة الغناء للزعامات. يقول الشاعر نزار فرنسيس:
“فيروز.. صرتي الرّمز.. والمعنى/ مهما اختلَفنا وْعن بعض ضعْنا/ صوتِك ياستّ الكلّ.. بدّو يْضلّ../ كلّما اختلَفنا.. يْعود.. يجمَعنا”.
حظيت فيروز بالعديد من الألقاب التي تمجد مسيرتها الفنية، وتحاكي تاريخها، ومنها: “جارة القمر”، و”أسطورة العرب”، و”ياسمينة الشام”، و”ملكة الغناء العربي”، و”عصفورة الشرق”، و”الصوت الساحر”، و”سيدة الصباح”، و”صوت الأوطان”، و”الصوت الملائكي”، وأضيف عليها “صوت الحلم”.
عرفت فيروز بغنائها لقيم نبيلة من حب ووطنية، وأدت أشعاراً لجبران خليل جبران وأحمد شوقي وبشارة الخوري، وغنت لمدن العالم العربي الأصيلة، كما غنت للشهور: تشرين ونيسان، وغنت لمرور العمر، وللأوطان، وللحلم، وحب الطبيعة، والمواسم؛ ولا نبالغ لو قلنا أنها الصوت “الذي غيَّر من شكل الحب في عالمنا العربي”، وشكلت للعالم الظاهرة المتجددة أبداً، وأداؤها تميز بالنضج والمرونة والتمكن الشديد من التعبير، فكان ميلادها كل عام ميلاد لبنان الجديد في عيد ميلادها الجديد.
دخلت إلى كل بيت عن طريق المسرح والتلفزيون والإذاعة، فجاءت ذاكرة الأخوين رحباني “ذاكرة الوطن”، فشكلت ظاهرة إبداعية اختزل فيها شغف الوجودية بقول عمر أبو ريشة “نهر الحياة العظيم، وفيروز – كما وصفها محمود درويش – هي “الأغنية التي تنسى دائماً أن تكبر.. هي التي تجعل الصحراء أصغر.. وتجعل القمر أكبر..”. ويقول نزار قباني: “قصيدتي بصوتها اكتست حلة أخرى من الشعر”، أما أنسي الحاج فقال: “بعض الأصوات سفينة وبعضها شاطئ وبعضها منارة، وصوت فيروز هو السفينة والشاطئ والمنارة، صوت فيروز هو الشعر والموسيقى والصوت، حتى الموسيقى تغار منه”.. ولا نبالغ لو قلنا أنها الصوت “الذي غيَّر من شكل الحب في عالمنا العربي”.. إنها فيروز، “جارة الوادي”، “جارة القمر”، “زهرة المساكين”.. فيروز التي عاشت للحب، وغنت للحب، فأدركت “سر الخلود”.
فيروز والرحابنة وزياد
في المسرح الغنائي، شكلت فيروز والرحابنة مدرسة فنية، وقد تواصلت هذه المدرسة مع زياد، إذ تقول فيروز في أحد حواراتها: مسرح زياد مختلف كلياً عن خطي كفيروز، لذلك أنا وزياد مكتفيان بالأغنية. كما ترى أن تجربة زياد تمثل امتداداً لتجربتها مع عاصي. وعندما سئلت عما إذا كان هذا الكلام يقضي على طموحات زياد بتكوين شخصية موسيقية مستقلة تتعاون معها فيروز على هذا الأساس، أجابت: هو فعلاً امتداد، ولكن بشكل متطور أكثر، وبالعكس، فهذا الكلام يفرحه، ولا يزعجه، لأنه مدرسة أصيلة أنشاها والده.
وعن رأيها بالتوزيعات الموسيقية الجديدة التي عملها زياد على الكلاسيكيات التي قدمتها في عديد حفلاتها، قالت: أحبها كثيراً، وأجدها من الضرورة أن تحدث، فهناك الأغنيات القديمة التي غنيتها، وأعاد زياد توزيعها الموسيقي الذي أعطاها وجهاً جديداً، ووضعها على الطريق الفني الحديث.
حطت بصوتها الفيروزي على أول شجرة عشق لتعيد لنا الثقة التي افتقدناها حين تسيّد العابثون الساحة الغنائية، وفُرضوا علينا قسراً عبر أجهزة الإذاعة والتلفزيون. وعن رأيها بالأغنية العربية والأصوات المتعبة التي لوثت الآذان، أضافت فيروز: في كل فترة من الزمان هناك فترة خير ونهضة. وفي جميع أنحاء العالم، الفن، وكل شيء، في حالة انحدار.
ويسألها المحاور: صوت فيروز كان تعويذة اللبنانيين خلال أيام الشدة، فهل كان هذا الصوت تعويذة لفيروز الإنسانة، أيضاً، أيام الحرب؟ فتجيب فيروز: في تلك الفترة خفت كثيراً، فالأماكن تضيق بالخوف، لأن الحرب شيء مرعب، ولا يعود الإنسان يفكر سوى بالحماية والمكان الآمن، لكن حين تسكت المدافع يعود الإحساس شبه طبيعي، ولا أحد يستطيع القول أنه يملك أحاسيسه بنفس الحالة، عندما يكون الجو هادئاً. أما سر نجاح فيروز المتواصل؟ فتعزوه لحبها لعملها وإخلاصها وتفرغها له، لأن الفن لا يحتمل شيئاً آخر معه.