إتقان المستحيل!! التحدي أن نعيد إحياء تموز من مراقده ولو قبل أوان الربيع
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
لغة الزيتون
حين تذكر المراجع العملية والتاريخية الأدبية ما يلي: “تعود المحفوظات الملكية في مدينة إيبلا إلى النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، نصوصها مكتوبة بالخط المسماري، وبلغة جديدة لم تكن معروفة سابقاً، وهي لغة إيبلا التي عُرفت وانتشرت قبل حوالي خمسة آلاف عام”، سنقف مطولاً أمام عبارة “لغة جديدة لم تكن معروفة سابقاً”، وسيتبادر للذهن فوراً أن أهل هذه الأرض ابتدعوا على مر عصورهم، وفي كل بقاعهم الجغرافية السورية، لغتهم الخاصة، ودونوا بها قصصهم وحكاياتهم، وأوان زراعتهم وحصادهم، وقصائد عشقهم الكبير؛ وكلما غزاهم مغول وتتار عصرهم، قاموا من تحت الرماد ومناجل الذبح ليبتدعوا تلكم اللغة الخاصة بهم، كما يليق بنبلهم وحضارتهم.
قدر مكتوب على جباه السوريين – أينما حلوا وارتحلوا – أن الإبداع صنعتهم، واقتحام المستحيلات حرفتهم، وترويض الصعب رياضتهم المفضلة.
هذا الكلام يأتي في وقت أريد للإرادات أن تكسر، وللهمم العالية الطامحة للبناء أن تتقهقر، وأن يعلو صوت اليأس والخنوع على مفاصل الحياة، وأهمها المفصل الثقافي ومشهديته السورية، فكان التحدي أن ينهض أولو العزم والإرادة بأمر جلل كبير، ألا وهو إعادة إحياء تموز من مراقده، ولو قبل أوان الربيع، فلابد أن يكون كل يوم نيسان، وكل ساعة هي ساعة تفتح نوارة في قلب الجيل، وفي مخيلة أهل الثقافة الموجهة له.
مسابقة ممتاز البحرة السورية
إطلاق مسابقة لفن اللوحة الطفلية كان أحد الأحلام التي سعينا جميعاً – كفناني لوحة الطفل – لكي يقام لها منبر، بل ومنابر عدة، وفي كل أجناس اللوحة وتفرعاتها، فكانت منشورات الطفل، في “الهيئة العامة السورية للكتاب” – وزارة الثقافة، أول المتلقفين للنداء. وانطلقت مسابقة، تحمل في رمزيتها ودلالاتها الكثير، لاستجلاب المواهب الشابة والإضاءة على فن الطفل ولغته البصرية، وما كان أجمل من إطلاق المسابقة، إلا اسمها الجميل المميز (ممتاز البحرة)، تخليداً لذكرى المؤسس الأول للغة البصرية الجادة والقوية للطفل السوري.
ما يهم، هنا، ليس الترويج للمسابقة نفسها، وإنما لما تتركه من أثر ودلالات؛ فيجب تلقف هذه الفرص والإتيان بما هو جديد، وتطوير العمل ما بعد توزيع الجوائز، ليتم بفاعلية أكبر تطوير منهج رسم اللوحة الطفلية في سورية وتعزيزه، والاهتمام بالمواهب الشابة الواعدة، أكانت من الفائزين، أم لم تكن، فسورية الولاّدة في كل محافل الإبداع لابد أن يكون لها السبق والريادة في هذا الفن.
المتأمل للوحات الفائزة، في مسابقة هذا العام، سيجد تجسيداً لمعنى اللون والريشة الراقصة بانسجام؛ فرغم كل الصعوبات التي يعيشها فنان اللوحة الطفلية في سورية استطاعت الفنانات الثلاث، الفائزات بالمراتب الأولى، أن يقلن للمتلقي، وللعالم كله، أن هذه الطفولة يليق بها هذا الفن، وأن على كل أكاديميات العالم تعلّم فن البراءة والجمال من وجوه أطفال سورية.
ليس بكلام تنظيري، فأنا، منذ عشرين عاماً، لا أجد لنفسي مرجعاً للوحاتي أدق تفاصيل وأجمل ملمحاً من وجه طفل سوري يبتسم، أو طفلة سورية ترقص مع الفراشات، ولكم أن تجربوا النظر في هذه الوجوه للوقوف على دقة إدعائي هذا من عدم صوابيته!!
فرات من ألوان الطيف
المسؤولية الآن ملقاة على عاتق أصحاب المنابر الثقافية والإعلامية والتربوية أن نعزز صناعة المستحيل في نفوس مواهبنا الشابة، وأن نذلل لهم الخطوات، ونجزل لهم العطاء، ونكافئ كرمهم الفني الصرف بتكريمات ومسابقات وندوات ومجلات وكتيبات وقصص.. سيكون لنا نهر، كالفرات، ملون بألوان الطيف، لا يصب – كما الآن – في أراضي الغير وأفئدة وعقول أطفال الغير، بل في أرض الوطن وعقول أطفاله.
كفى تهجيراً للإبداع السوري المتعلق باللوحة الطفلية؟ ولنكرم أصحاب الاختصاص فيه، ونقيم لهم مراكز دائمة ومعاهد اختصاصية بمناهج تعليمية تبدأ مما وصل إليه هذا الفن في أنحاء العالم.
وفي الوقت الذي يريدون كسر الإرادة الخاصة بنا، تخرج للعلن ولادة طفل سوري يعرف كيفية ترويض الأحلام عبر ابتسامة، كيفية كسر الأفق المتوقع لانهيار الأمم بنهضة تتولّد من روح العناد، خاصة وأن الرقم الطيني الصافي الذي ينتمي إليه يأبى الانكسار أبداً.. أزلي المنشأ في الحب، أبديّ الانتهاء بالوله، وعطش الانتماء لرحم الآلهة السورية الخام.
بطاقة محبة
لن نزاود حين نقول أن وزارة الثقافة بإدارة د لبانة مشوح، بتكريسها “جائزة ممتاز البحرة” لفن اللوحة الطفلة، تكون بحق قد وجهت بوصلتها الرشيدة إلى مفصل مهم من مفاصل البناء الحضاري للأوطان، لأهمية الطفل لمستقبلنا، ولأهمية اللوحة الطفلية واللغة البصرية لهذا الطفل المنشود. ولنتذكر هنا أن فناني قصص الأطفال ولوحاتها، وصانعي الرسوم المتحركة، يتلقون في بلدانهم كل الحفاوة والترحيب والاهتمام، وتقام لهم المعارض الفصلية والسنوية الضخمة لنشر نتاجهم، ليكون هذا حافزا وباباً من أبواب المنافسة فيما بينهم ليبرز كل واحد منهم طاقاته الإبداعية، ويصبها كسبائك الذهب في مجلات وكتب البلد الذي ينتمي إليه.
الفرنسي مبتكر “أستريكس” أنموذجاً
كل محبي ومتتبعي فن الكوميك العالمي يعرفون الفنان الكبير أوديرزو، فنان أشهر سلسلة كوميك عالمية “مغامرات أستريكس”. الشاهد من ذكر أوديرزو أنه توفي في آذار الماضي عن عمر يناهز 92 عاماً، جراء قصور في القلب لتعرضه لوباء العصر كورونا، وبيعت أربع رسوم أصلية أنجزها أوديرزو مقابل ما يقرب من 400 ألف يورو في مزاد خيري ومنحت لمستشفيات باريس.
في حياته أدركت فرنسا أهمية تصدير فن الكوميك الخاص بأوديرزو للعالم، ليكون ماركة فرنسية خاصة تضاهي شهرة عطور باريس، فأقامت له معهداً لتدريب الطلاب على خطوطه وأسلوبه، ورعت له طباعة إنتاجاته كلها، فبيع أكثر من 380 مليون كتاب من سلسلة “أستريكس” المصورة في أنحاء العالم بـ 111 لغة، إضافة إلى تصوير أفلام ومسلسلات تلفزيونية، وإطلاق ألعاب فيديو، وإنشاء منتزه فرنسي مخصص للرسوم الهزلية وشخصياتها.
بهذه النماذج ينتهي المقال لما يراد أن يُقال.