مجلة البعث الأسبوعية

اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده.. بومبيو يطمح للرئاسة في 2024 ونتنياهو يسابق الزمن لاغتيال الاتفاق النووي مع إيران

“البعث الأسبوعية” ــ تقرير العدد

في 27 تشرين الثاني 2020، اغتيل العالم النووي الإيراني الكبير محسن فخري زاده في هجوم إرهابي معقد على الطريق السريع في أبسارد، وهي بلدة صغيرة تقع شرقي طهران. أوقف انفجار سيارته، ثم أطلقت أعيرة نارية من اتجاهين.. اغتالت إسرائيل العديد من العلماء النوويين الإيرانيين في الماضي، لكنها، حتى الآن، لم تتمكن من الوصول إلى فخري زاده الذي يتمتع بحماية شديدة.

تعزز الثقوب التي أحدثتها طلقات الرصاص في سيارة فخري زاده فكرة الاعتداء الإسرائيلي، فقد استخدمت إسرائيل في الماضي عملاء من منظمة “مجاهدي خلق” – وهي جماعة إيرانية إرهابية في المنفى رفعتها وزارة الخارجية الأمريكية مؤخراً عن لائحة المنظمات الإرهابية – لتنفيذ هجمات في إيران. وكانت منظمة “مجاهدي خلق” أول جماعة نفذت عمليات انتحارية في إيران.

وليس هناك شك في هوية المسؤول عن الهجوم، فقد حُدّد فخري زاده من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في عام 2018، مديراً لما أسماه “مشروع الأسلحة النووية الإيرانية”.

وعندما كشف نتنياهو بعد ذلك أن إسرائيل قد انتزعت من مستودع في طهران أرشيفاً كبيراً من الوثائق برنامجها النووي، قال: “تذكر هذا الاسم، فخري زاده”.

 

تواطؤ إدارة ترامب

وفي حين أن من المستبعد تماماً أن تكون إسرائيل قد أقدمت على تنفيذ عملية الاغتيال دون الحصول على ضوء أخضر من إدارة ترامب، لا يمكن استبعاد دور الولايات المتحدة الأكثر مباشرة تماماً.

وقد أجرت إدارة ترامب عدة عمليات تخريبية مشتركة مع إسرائيل ضد المنشآت النووية الإيرانية في العام الماضي، واعتمدت جزئياً على الموساد الإسرائيلي في تنفيذ اغتيال الجنرال قاسم سليماني، خارج مطار بغداد في كانون الثاني الماضي.

وفي وقت سابق من تشرين الثاني الجاري، أثار ترامب نفسه احتمال مهاجمة إيران مع كبار مستشاريه للأمن القومي، بينما كان وزير الخارجية مايك بومبيو، أبرز صقور الإدارة في واشنطن تجاه إيران، قد التقى برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل أيام فقط، كما التقى قادة خليجيين يعتبرون أنفسهم خصوماً لإيران، ولا سيما المملكة السعودية والإمارات المتحدة.

 

جر إيران إلى الحرب

بينما يمكن اعتبار الهجوم الإرهابي على عالمها النووي الكبير عملاً حربياً، فإن من غير المرجح أن تنتقم إيران علناً لنفسها، فهي لن تلعب لعبة نتنياهو وهو يحاول تحريض الولايات المتحدة على شن هجوم على إيران. إن اغتيال محسن فخري زاده لا يستهدف برنامج ايران النووي.. هدفه هو اغتيال الاتفاق النووي مع إيران قبل أن يتولى الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن منصبه. فهناك توقعات بأن بايدن سوف يعود إلى الاتفاق النووي مع إيران، ومع بدء العد التنازلي قبل مغادرة ترامب للمكتب البيضاوي، سيستغل نتنياهو ذلك الوقت لشن المزيد من الاستفزازات.

وعلى أي حال، فإن شن هجمات على إيران ليس له سوى القليل من السلبيات في الوقت الحالي، إذ يمكن لإيران أن تهاجم إسرئيل وتشعل صراعاً أوسع يمتص الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران كان نتنياهو يسعى إليها منذ فترة طويلة.

أو، إذا انتظرت إيران الانتظار للتعامل مع الرئيس المنتخب جو بايدن، فمن المستبعد جداً أن تفرض إدارة ترامب أي تكاليف على الاستفزازات الإسرائيلية الأخرى.

في كلتا الحالتين، من المرجح أن يؤدي الاغتيال، وغيره من الهجمات المستقبلية المحتملة، إلى تقوية موقف إيران، وفي النهاية تعقيد محاولات فريق بايدن لإحياء الدبلوماسية. وهذا يخدم مصلحة نتنياهو ايضاً.

في الواقع، من المرجح أن يتضاءل انفتاح طهران على مفاوضات ما بعد خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن الصواريخ وغير ذلك من القضايا، في حال انخراط إسرائيل في تجدد الاغتيالات في إيران.

وبافتراض مسؤولية إسرائيل ورضوخ إدارة ترامب – إن لم يكن تواطؤها – في استفزازات إسرائيلية إضافية، فإننا نجد أنفسنا الآن في وضع مشابه – ولكن ربما يكون أكثر خطورة خلال الشهرين المقبلين – خاصة إذا فشل بايدن وفريقه للسياسة الخارجية في إيصال رسالة مفادها أن إسرائيل سوف تتحمل التكاليف إذا استمرت في تنفيذ هجمات داخل إيران خلال الفترة الانتقالية الحالية. وعلى هذا النحو، تجد الإدارة الجديدة نفسها في أرض وعرة للغاية بانتظار تنصيب بايدن، وإذا تبين أن إسرائيل كانت وراء الاغتيال، فلا أوهام بشأن رغبة نتنياهو في جر الولايات المتحدة إلى حرب أخرى لا نهاية لها في الشرق الأوسط.

من المهم أيضاً ملاحظة أنه، من العام 2002 إلى العام 2012، ضغطت إسرائيل على الولايات المتحدة لتدمير لبرنامج إيران النووي. وخلال تلك الفترة، فرضت إسرائيل على واشنطن التزام عقوبات أشد ضد طهران، وهددت مراراً بالعمل العسكري، لكن هذه الجهود فشلت مع قيام إيران ببناء قدراتها النووية بشكل منهجي وسلمي.

بعد ذلك، من عام 2012 إلى عام 2015، جرّبت الولايات المتحدة الدبلوماسية الواقعية، جنباً إلى جنب مع المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين، وقد بلغت هذا النهج ذروته مع توقيع “خطة العمل الشاملة المشتركة”، والتي تم الترحيب بها على نطاق واسع باعتبارها الأكثر تفاوضاً على اتفاقية للانتشار النووي، والتي وافقت إيران بموجبها على كبح حاد لبرنامجها النووي.

وعلى الرغم من هذه القيود، أعلنت إسرائيل معارضتها، وضغطت – بنجاح – على إدارة ترامب لإنهاء المشاركة الأمريكية، في عام 2018، في الاتفاقية، وفرض عقوبات جديدة كجزء من حملة “الضغط الأقصى” ضد إيران.

 

بومبيو و”مفاجأة أكتوبر”

منذ أيلول الماضي، ومع بقاء أقل من سبعة أسابيع على موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، عكف الفصيل المتحالف مع وزير الخارجية مايك بومبيو داخل إدارة ترامب على تمهيد الطريق لما قيل حينها أنه “مفاجأة أكتوبر” (تشرين الأول)، وهي المواجهة التي ستُنظر إليها على أنها دفاعية وقانونية مع إيران.

فقد غرد بومبيو في 27 آب، بأن فترة الثلاثين يوماً المتبقية لـ “إعادة عقوبات مجلس الأمن على إيران”، ستنتهي في 20 أيلول 2020. وكانت التغريدة غريبة لعدة أسباب، فقد أوضح مجلس الأمن بأكمله (باستثناء جمهورية الدومينيكان) أن الولايات المتحدة لم يكن لديها صفة لبدء آلية “العودة إلى الوراء” الواردة في الاتفاق النووي الإيراني، لأن الولايات المتحدة لم تعد طرفاً في الاتفاق. تغريدة بومبيو تجاهلت تماماً حكم الغالبية العظمى من أعضاء المجلس وتظاهرت كما لو أن ساعة الـ30 يوماً قد بدأت. ولكن ما كان أشد إشكالية هو أن بومبيو بدا وكأنه يشير إلى أنه يعتزم فرض عقوبات دولية غير الموجودة في “منتصف ليل يوم الـ 20 من أيلول بتوقيت غرينتش”، وهو إنفاذ قد يستلزم قيام السفن الحربية الأمريكية بمهاجمة ومصادرة سفن الشحن الإيرانية في المياه الدولية – وكذلك السفن غير الإيرانية المشتبه في نقلها البضائع الإيرانية. وسيؤكد بومبيو أن هذه الإجراءات ليست قانونية فحسب، بل هي ضرورية أيضاً لدعم قرار مجلس الأمن (غير الموجود، مرة أخرى!!).

وبالطبع، سترفض الغالبية العظمى من المجتمع الدولي، وكذلك الدول الأخرى في مجلس الأمن، بقوة، فكرة أن الولايات المتحدة تتصرف نيابة عن المجلس، وستعتبر سلوك الولايات المتحدة بمثابة أعمال عدوانية غير قانونية. لكن هذا لن يكن ليوقف بومبيو، فقد استولت الولايات المتحدة بالفعل على أربع ناقلات نفط، يُزعم أنها تحمل البنزين الإيراني “من” الخليج العربي إلى كاراكاس، في عملية “قرصنة دولة” سافرة ومكشوفة.

ومع ذلك، تم الاستيلاء على هذه السفن في المحيط الأطلسي وبحر العرب، من أجل تقليل مخاطر الاشتباك العسكري، ذلك أن خطر المواجهة مع القوات البحرية الإيرانية لن يكون ضئيلاً فيما لو استهدفت إدارة ترامب السفن الإيرانية في الخليج العربي أو بالقرب من مضيق هرمز. وحتى إذا قررت الولايات المتحدة، بتوجيه من بومبيو، البقاء بعيداً عن المياه القريبة من إيران، فقد تستمر طهران في الرد على السفن الأمريكية، أو تلك التابعة لشركائها الأمنيين العرب في الخليج.

إذا ردت إيران، أو عندما ترد إيران، سيحصل بومبيو على “مفاجأة أكتوبر”. وسوف ينظر إلى تصرفات إيران على أنها عمل عدواني يتطلب رداً حازماً وحاسماً، وسيقول بومبيو إن تصعيد إدارة ترامب الذي سبق الرد الإيراني كان، في النهاية، إنفاذاً لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

وعليه.. وفجأة، وقبل أقل من ستة أسابيع من انتخابات تشرين الثاني الحاسمة، كان بومبيو يخطط لوضع الولايات المتحدة في حرب جديدة.. والحقيقة فإن أي توقيت لا يمكن أن يكون أكثر ملاءمة. وبالطبع، فالذهاب إلى الحرب خطوة سياسية محفوفة بالمخاطر، على الرغم من أن الجمهور يميل إلى الالتفاف حول ترامب في البداية، ولكن تكييف الرأي العام الأمريكي بأن إيران هي المعتدي الذي تحتاج الولايات المتحدة لـ “مقاومته” كان قد بدأ بالفعل. ولربما كان ذلك هو القصد من التسريب الغريب حول مؤامرة إيرانية مزعومة لاغتيال السفير الأمريكي في جنوب إفريقيا، رداً على اغتيال ترامب للجنرال قاسم سليماني في وقت سابق من هذا العام.

غرد ترامب عن القصة بعد 24 ساعة من تسريبها إلى صحيفة “بوليتيكو” الإلكترونية، ولكن بدلاً من الإشارة إلى المخابرات الأمريكية فيما يتعلق بالمؤامرة، استشهد “بتقارير صحفية”، ما يشير إلى أنه ربما سمع عن القصة من خلال وسائل الإعلام، وليس من خلال إحاطاته الاستخبارية.

وسواء أكانت موثوقة أم لا، فإن تسريب المؤامرة المزعومة يهيئ للجمهور الأمريكي الحاجة إلى “الرد” – ويمهد الطريق لـ “مفاجأة أكتوبر”.

 

إسرائيل تدفع مرة أخرى.. إلى الحرب

في 16 تشرين الثاني، بدأت حملة حرب جديدة ضد إيران.

قبل يوم من ذلك، سأل الرئيس ترامب كبار مستشاريه في اجتماع بالمكتب البيضاوي عما إذا كانت هناك أي فرصة للعمل ضد الموقع النووي الإيراني الرئيسي خلال الأسابيع المقبلة.

حاول بعض المستشارين ثني الرئيس عن المضي قدماً في الضربة العسكرية، محذرين من أن الهجوم على المنشآت الإيرانية يمكن أن يتصاعد بسهولة إلى صراع أكبر في الأسابيع الأخيرة من رئاسة ترامب.

المشكلة أن بومبيو، وهو ما حدث في المحاولة لجر الولايات المتحدة إلى الحرب، يريد أيضاً الترشح للرئاسة – إن لم يكن في العام 2024، ففي وقت لاحق. هو يبلغ من العمر 56 سنة، ويمكنه الانتظار بضع ساعات أخرى. وهو يحاول الحصول على أصوات الإنجيليين واللوبي الصهيوني من خلال استرضاء نتنياهو.

خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل، أضاف بومبيو عقوبات جديدة، ودافع فيه عن تكتيكات “الضغط الأقصى” التي يتبعها ترامب ضد الجمهورية الإسلامية. وتفاخر بالأضرار التي لحقت بالاقتصاد الإيراني: “حملة الضغط الأقصى ضد النظام الإيراني لا تزال فعالة بشكل غير عادي. واليوم يواجه الاقتصاد الإيراني أزمة عملة وأزمة دين عام، وارتفاعاً في التضخم. قبل حملة “الضغط الأقصى”، كانت إيران تصدر ما يقرب من 2.5 مليون برميل من النفط يومياً، وهي الآن تكافح لتصدير ربع هذا الحجم فقط”.

 

تخريب فرص بايدن  

كما هو متوقع، أدت سلسلة التصعيدات إلى وضع الولايات المتحدة وإيران على بعد دقائق من الحرب مرتين خلال أقل من عام. لكن مع ذلك، فإن الحرب التي سعى إليها كثيرون في إسرائيل والولايات المتحدة لم تتحقق بالكامل بعد. والآن، وبعد أن هزم بايدن ترامب، من المحتمل أن يرى أولئك الذين يريدون الحرب، لا سيما في إسرائيل، أن نافذة فرصتهم تغلق، فيما تنسق إسرائيل مع ترامب والمملكة السعودية والإمارات المتحدة من أجل فرض عقوبات جديدة تستهدف، مرة أخرى، على الأقل، تخريب فرص بايدن في استئناف الدبلوماسية مع إيران.

على مدار العشرين عاماً الماضية، كانت كل الشائعات حول هجمات وشيكة على إيران نتاجاً للدعاية الإسرائيلية. فإسرائيل لا تجرؤ إسرائيل على مهاجمة إيران. وإذا كانت إسرائيل وراء اغتيال فخري زاده – وهو ما يبدو مرجحاً للغاية، وإن لم يتم إثباته بعد – فهذا يوضح درجة الجرأة التي يشعر بها نتنياهو في مشروعه لتقويض الرؤساء الديموقراطيين للولايات المتحدة، وجر الولايات المتحدة إلى الحرب، مع الإفلات من العقاب.

وفي الواقع، دعت إيران حلفاءها في محور “المقاومة” إلى تجنب الاستفزازات التي قد تكون ذريعة لشن هجوم، وأن يكونوا في حالة تأهب قصوى وتجنب إثارة التوترات مع الولايات المتحدة إذ أن إدارة ترامب المنتهية ولايتها قد تعطي ذريعة لشن هجمات.