افتراض واقعي
د. نضال الصالح
في العربية، وممّا يتعدّى فعلُه لمفعولين، ما يُصطلح عليه بأفعال الظنّ واليقين، ومنها: حسبَ، وظنَّ، وخالَ، وفي النحو أن هذه الأفعال تدخل على المبتدأ والخبر، فتغيّر حركة آخرهما من الرفع إلى النصب. والظنّ لغةً الشكّ الذي هو خلاف اليقين، وفي التعريف ترجيح أحد احتمالين على الآخر مع احتمال النقيض.
وفي اللغة أيضاً الافتراض ابن الظنّ أو توءمه في الدلالة، فهو يعني صدق الخبر وكذبه بآن، ولعلّ ذلك ما كان سبباً في تسمية مواقع التواصل الاجتماعي بالعالم الافتراضي الذي يُعرّفُ بأنّه عالَم مختلط من الحقيقة والتوهم، لأنّ حوامله الثلاثة، الأشخاص والبيئة وأدوات التواصل، افتراضية وليست واقعية.
وفي الواقع ليس الافتراض صفة خاصة بوسائل التواصل الاجتماعي، بل هو الواقع نفسه أحياناً وربّما غالباً، وقرينة ذلك ما يحتشد فيه، أي الواقع، ممّن هم افتراض أكثر من كونهم واقعاً، وبالمعنى البلاغي ممّن هم مجاز أكثر من كونهم حقيقة، أو مجاز بحت كما يعرّف ذلك علم أصول الفقه، ومن أمثلة ذلك شاعر على الظنّ والاحتمال حسب تعريف معاجم اللغة للافتراض، وروائي حسب تعريف الفلسفة أي طريق من طرق عكس القضايا، وتشكيلي حسب المعنى الحقوقيّ أي ما لا يُجزم به، ومفكّر حسب مصطلحات علم الحاسوب أي الواقع التقريبيّ.. و.. وقبل ذلك وبعده، وشأن العالم الافتراضي نفسه، رجلٌ على الظنّ والاحتمال، وامرأة على الظنّ والاحتمالأيضاً.
ومن بعض علامات الافتراضيين عضّ أحدهم، أو إحداهنّ، بنواجذه على كرسيّ جلسَ عليه، أو أجلِسَ عليه، خلسة أو اختلاساً، والكرسيّ أوسع منه ألف مرة وبعد أن أتخم خزائن كبيرة بتقارير كاذبة عمّن يملأ الكرسي بحقّ، ويقظة أحدهم، أو إحداهنّ، من بعد سبات شتوي، فمزاحمته آخرين واقعيين المناكب في بلوغ شأن لم يكن من شأنه، وتوهم أحدهم، أو إحداهنّ، جدارته بموقع أسند إليه على غفلة من الحقيقة، فتصديقه نفسه لنفسه بأنه أهلٌله، فسعيه إلى الوصاية على واقعيين، وغير قليل منهم جديرٌ بما لم يكن، أو تكن، جديراً به. ومن بعض علاماته مسارعة أحدهم، أو إحداهنّ، إلى عدّ الجزء كلاً، واختزال الكلّ إلى جزء، أو طيّ الكلّ تحت معطفه، أو معطفها الباريسي، فارتضاء الافتراضيين أمثاله، أو أمثالها، الانضواء تحت خيمته، أو خيمتها الزيف، سوى الواقعيينأبناء الحياة، وروحها، والمولودين من تربة الأرض ومن نسغ أشجارها التي لا تعرف اليباس.
الافتراضيّ، والافتراضية بالطبع، صورة الصفة لا الصفة نفسها، والصورة بنفسها وحدها دالّ فحسب، بتعبيراللسانيات، أي نصف العلامة، لا العلامة بمكوّنيها الدالّ والمدلول، وعالَم مستنسخ من العالم الحقيقي حسب فلسفة أفلاطون في نظرية المُثُل أو المحاكاة. ولأنّه، الافتراضيّ، والافتراضية بالطبع، كذلك، تزدحم الحياة بمايسلبها المعنى الجديرة به، وتصير أشبه بكهف معتم لا فرق فيه بين الأعمى والبصير، والجاهل والعالم، والصورة والأصل، والمتثاقف والمثقف، و….
وبعدُ، وقبلُ، فإنْ كان من بديع العربية عدّها الظنّ من الأضداد، فإنّ من بديع الواقع أنّ الافتراض لا يعني سوىالافتراض.