مجلة البعث الأسبوعية

“عام القمح” كفيل بالحفاظ على أمننا الغذائي وإسقاط الأوراق المتربصة بنا شراً.. تحديات تواجه التنفيذ ومقترحات لدعم عمل القطاع

“البعث الأسبوعية” ــ حسن النابلسي

لا شك أن ثمة اعتبارات دفعت وزير الزراعة لرفع شعار “عام القمح”، لها علاقة بضمان الأمن الغذائي ولاسيما في ظل ما تتعرض له بلادنا من عقوبات اقتصادية من جهة، وما تعلنه المنظمات والهيئات الدولية بين الفينة والأخرى من احتمال وقوع أزمة غذاء عالمية نتيجة انخفاض إنتاج الحبوب في عدد من الدول بسبب التغييرات المناخية من جهة ثانية، وما قد ينجم عن ذلك من ارتفاع غير مسبوق لأسعار المواد الغذائية، ما يملي علينا بالمحصلة إعادة ترتيب أولوياتنا الاقتصادية وخاصة الزراعية منها بغية تأمين أمننا الغذائي، الذي يتأتى بالدرجة الأولى من توفير محصول القمح تكتيكياً وإستراتيجياً، وبذلك نتحاشى (ويل أن نأكل مما لا نزرع) لاسيما وأن دائرة العقوبات الاقتصادية على سورية آخذة بالاتساع.

 

مواجهة الضغوطات

نعتقد أن أبرز ما يعزز طرح وزير الزراعة هو أن بلدنا زراعي بامتياز، ما يستوجب الاشتغال بهذا الاتجاه للحيلولة دون الوقوع في مطب الضغوطات الدولية الرامية -من خلال اللعب بورقة توريد المواد الغذائية والزراعية- إلى تمرير مشاريعها السياسية، وقد أظهر تقرير السياسة الوطنية للعلوم والتقانة والابتكارـ هناك العديد من نقاط القوة يتمتع بها القطاع الزراعي لابد من العمل على تعزيزها وتسخيرها ضمن سياق الاستثمارات الزراعية منها تنوع البيئات الزراعية الملائمة لطيف واسع من المحاصيل، والتنوع في الإنتاج الزراعي والحيواني، وزيادة في المساحات القابلة للزراعة بنسبة 1.48% نتيجة لاستصلاح الأراضي الجبلية والمحجرة وزراعتها بالمحاصيل والأشجار الملائمة بيئياً، والقدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من محاصيل إستراتيجية كالقمح والبقوليات والقطن والزيتون، إضافة إلى الخضراوات المختلفة وخاصة (البطاطا والبندورة(، ومختلف أنواع الفاكهة )الحمضيات والتفاحيات واللوزيات) بالتوازي مع وجود صندوق التخفيف من آثار الجفاف والكوارث الطبيعية، ووجود الكوادر الفنية المدربة المتخصصة.

 

تشخيص

في المقابل شخّص الدكتور هيثم عيسى /كلية الاقتصاد – جامعة دمشق/ أسباب تردي وضع الزراعة في سورية، مبيناً في ورقة عمل حملت عنوان “هل أثرت الحرب وقانون قيصر بمفاعيل رجعية في قطاع الزراعة السوري” أن هذه الأسباب تتمثل بقصور الخطط والإستراتيجيات الاقتصادية الكلية وفشلها في إنجاز هدفين تنمويين أساسيين الأول تطوير قطاع الزراع واستنفاذ إمكاناته، والثاني تطوير القطاعات الأخرى وبشكل خاص الصناعة التحويلية بحيث يستوعب هذا الأخير منتجات الزراعة ويقوم بتصنيعها وكذلك يؤمن مدخلات مختلفة مهمة لها مثل الأدوات والآلات الزراعية والأسمدة وغيرها، إضافة إلى ضعف التخطيط الاقتصادي القطاعي على مستوى قطاع الزراعة وعدم وجود رؤى تنموية طويلة الأجل لهذا القطاع، الأمر الذي أدى إلى حصول إخفاقات كثيرة كـ”مشروع تطوير الغاب، ومشروع تطوير الحمضيات” وغيرها، إلى جانب تراجع مشاركة القطاع العام في النشاط الزراعي بنسبة 0.5%، مقابل سيطرة القطاع الخاص بنسبة 98.5%.

 

تقاطع ولكن

وفي الوقت الذي تقاطع فيه تقرير السياسة الوطنية للعلوم والتقانة والابتكار مع ما بينه عيسى لجهة أن الاستثمار الخاص يشكل العمود الفقري للقطاع الزراعي حيث تبلغ نسبته 98.5% من إجمالي مقابل 1% للقطاع المشترك و0.5% للقطاع العام، أكد تقرير السياسة الوطنية أن الموارد الأرضية لا تزال تواجه الكثير من التحديات كتحويل استعمال بعض الأراضي إلى استعمالات بديلة، وتعرض بعض أجزاء الأراضي لتدهور الخصوبة والتملح والتلوث نتيجة الظروف المناخية الطبيعية من جفاف وقلة الهطولات المطرية، إضافة إلى العامل البشري غير المدرب وعمليات التكثيف الزراعي، وعدم الالتزام بالدورات الزراعية المناسبة، وبالتالي انخفاض الإنتاجية، مما يتطلب إعادة استصلاح هذه الأراضي وتأهيلها ومعالجة مشكلة تفتت الحيازات الزراعية لكونها تعيق الاستثمار والمكننة واتخاذ خطوات جادة للحد من هذه الظاهرة.

 

غياب التنظيم

وبالعودة إلى ما أثاره عيسى خلال عرضه للورقة التي قدمت في ورشة عمل حول “الأزمات المعيشية والاقتصادية في ظل الحصار الاقتصادي” فقد أشار إلى غياب روح التنظيم وريادة الأعمال والاستثمار عن المشاريع الزراعية، وهيمنة أسلوب الزراعة الأسرية والتربية “السرح” للثروة الحيوانبة، وضعف إمكانات التمويل الزراعي المتاحة، وإهمال التسويق الزراعي المحلي والخارجي وتحكم القطاع الخاص “تجار سوق الهال” بأنشطة التسويق الزراعي، وضعف سياسات الدعم الزراعي وعدم فعاليتها، وعدم وصول الدعم إلى مستحقيه، وتجاهل المخاطر المتعددة التي تواجه النشاط الزراعي، وغياب تام لأنشطة التأمين الزراعي، وعدم استقرار أسعار مدخلات الزراعة وتقلبها وارتفاعها، مثل أسعار الوقود الكهرباء والأسمدة وغيرها، وعدم توفرها بشكل دائم.

ودعا عيسى إلى ضرورة وضع خطط التنمية الاقتصادية واستراتيجياتها على أساس تحقيق النمو المتوازي والمترابط بين قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية، واتباع أسلوب التخطيط طويل ومتوسط وقصير الأجل للاستثمار الزراعي، مع إصدار قوانين مناسبة خاصة بالاستثمار الزراعي، من أجل المحافظة على المساحات المزروعة حالياً وزيادتها مستقبلاً، مشدداً على تحفيز مأسسة العمل الزراعي ووضع السياسات المناسبة لزيادة العائد الاقتصادي على المشاريع الزراعية بما يكفل رفع قيمة ريع الأرض بالنسبة إلى سعرها وذلك للحد من تفتيت الحيازات الزراعية وبيع أجزاء من الأرض، وتصميم سياسات فعالة للتمويل الزراعي من أجل القدرة المالية للمزارعين على شراء التقنيات الحديثة المكلفة، وتصميم برامج ومنتجات تأمين تناسب العمل الزراعي وتحقق الاستقرار للمستثمر الزراعي عند حدوث مخاطر أياً كان نوعها.

 

مقترحات

في حين خلص تقرير السياسة الوطنية للعلوم والتقانة إلى جملة من المقترحات العامة لتطوير قطاع الزراعة أبرزها تشجيع البحوث في مجال البيئة الزراعية والصناعات الزراعية الغذائية، وزيادة الإنتاجية الرأسية لكافة المحاصيل الزراعية باستخدام حزمة متكاملة من المدخلات، إضافة إلى تطوير منظومة عمل الإرشاد الزراعي وتعزيز التنسيق مع البحوث والتعليم وتأهيل المرشدين لتمكينهم من تنفيذ البرامج الإرشادية المتخصصة ونقلها إلى المنتجين. مع التركيز على الخدمات المساندة للإنتاج والقيام بالبحوث الزراعية اللازمة لإنتاج الأصول النباتية والعروق الحيوانية الجيدة والبدائل المطلوبة وتوزيعها على الفلاحين.

 

خروج مساحات

أسباب عديدة ساهمت بخروج مساحات زراعية، وهناك شواهد كثيرة تدلل على هجران كثير من المزارعين لأراضيهم الزراعية إما مؤقتاً أو بشكل دائم….أحد المزارعين بيّن لـ”للبعث الأسبوعية” أنه يفكر ببيع أرضه والاستعاضة عنها بأي مشروع تجاري، وذلك لعدم جدوى الإنتاج الزراعي، لدرجة أن المردود السنوي لها لا يغطي تكاليف الإنتاج، مؤكداً أنه غالبا ما يترك إنتاجه في الأرض دون تسويقه كون أن أجرة السيارة التي ستنقل المحصول إلى سوق الهال أعلى من قيمة بيع المحصول ذاته.

مزارع آخر أقدم على قلع ما يقارب 500 شجرة زيتون نظرا لارتفاع تكاليف إنتاجها وعدم توفر المياه اللازمة للري، ناهيكم عن صعوبة تسويق زيت الزيتون وانخفاض أسعاره التي تكافئ – في أحسن الأحوال- تكاليف إنتاجه.

في المقلب الآخر هناك كثير من المزارعين لا يزالون متمسكين بأراضيهم ومصرين على جدواها الاقتصادية دون أن يخفوا التحديات التي يواجهونها وفي مقدمتها ارتفاع أسعار حوامل الطاقة والأسمدة وأجور النقل، إلى جانب التغيرات المناخية والأمراض والأوبئة النلجمة عنها، معتبرين استمرارهم بالاستثمار الزراعي في كل المواسم من شأنه أن يشكل رافعة مالية لهم، بمعنى أن الخسارات ليست متتالية، فالمزارع ربما يخسر في موسم أو موسمين لكنه يحصل على هوامش أرباح لا بأس بها في مواسم أخرى.

 

تحليل

وفي هذا السياق يظهر تحليل الواقع العام لقطاع الزراعة نقاط ضعف هذا القطاع المتمثلة بعدم مواكبة القوانين والتشريعات لعملية تطور الإنتاج الزراعي وعدم كفاءة تطبيق بعضها، وانخفاض نسب تنفيذ استصلاح الأراضي في مشاريع التشجير المثمر، وضعف الموارد المالية وتخوف المستثمرين من التوجه للقطاع الزراعي بسبب عامل المخاطرة وطول فترة الاسترداد، إلى جانب ضعف الحلقات التسويقية المختلفة وعدم دخول القطاع الخاص في إقامة مؤسسات وشركات تسويقية رائدة، وعدم وجود إستراتيجية للاستفادة من الميزة التنافسية لبعض المنتجات الزراعية السياسة، ليقدم تقرير السياسة الوطنية عدداً من الفرص التي يمكن الاستفادة منها لتطوير القطاع الزراعي كتنامي التعاون والتنسيق مع الجهات والمنظمات العربية والإقليمية والدولية ذات الصلة بالزراعة، بالتزامن مع تبوأ تنمية القطاع الزراعي أهمية كبيرة في أولويات الحكومة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية، واهتمام الحكومة بزيادة الاستثمارات الزراعية ودعم البنية التحتية الزراعية، وتطور البحث العلمي الزراعي والإرشاد والتعليم والتأهيل وتوطين التقانات الحديثة.

 

مشهد مضطرب

أمام هذا المشهد المضطرب بتحدياته وإشكالياته، يركز المهتمون بالشأن الزراعي على تجاوز التحدي المتعلق بتوسيع زراعة القمح، وهنا يطرح أحد المهندسين الزراعيين فكرة التركيز على المحاصيل الإستراتيجية وعلى رأسها القمح لاعتبارات تتعلق بالدرجة الأولى بالظروف المناخية، معتبراً أن هذا الأمر إستراتيجي بامتياز في ظل ما تعيشه البلاد من أزمة خانقة، وما تشهده المنطقة من حالة جفاف تملي علينا ترشيد وإدارة مواردنا المائية بكل ما أوتينا من قوة، فبلدنا مشهور بزراعة الحبوب ولاسيما القمح القاسي، ولابد من المحافظة على هذه الثروة حفاظاً على أمننا الغذائي وسد احتياجات السوق، مبدياً خشيته من الوصول لمرحلة لا نستطيع خلالها تأمينها حتى لو امتلكنا الإمكانيات المادية اللازمة لشرائها، مشيراً إلى أنه في عام 2008 أحجمت بعض الدول عن تصدير الأعلاف لتأمين احتياجاتها على المدى المتوسط، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكل ملحوظ في سوقنا المحلية نتيجة صعوبة تأمينها، وأضاف أن الجدوى الاقتصادية لزراعة القمح أكبر من زراعة كثير من المحاصيل، وأقل استنزافاً لثروتنا المائية، ولا ضير من الاستغناء عن بعض المحاصيل التي لا يشكل غيابها عن المشهد الزراعي والاستهلاكي أي تهديد للأمن الغذائي، بل ويمكن استيرادها عند الضرورة دونما عناء.

 

الخلاصة

مما سبق نخلص إلى أن الظروف الحالية تستوجب المفاضلة بين منتجاتنا الزراعية وتحديد أولوياتنا بما يدعم أمننا الغذائي، ولا يختلف اثنان على ضرورة أن يتصدر القمح سلم هذه الأولويات، خاصة في ظل مخاوف من خروج بعض المساحات الزراعية من الإنتاج نتيجة ما تعانيه البلاد من تحديات ليست بالقليلة وبالذات مناطق المحافظات الشمالية المغذي الرئيسي لمحصول القمح، وما شعار “عام القمح” إلا خطوة في هذا الاتجاه، خاصة بعد أن ارتفعت أصوات المطالبين بتوسيع مساحات إنتاج هذا المحصول ولو على حساب محاصيل أخرى كالخضروات التي تستنزف الثروة المائية، ويبرر أصحاب هذه الأصوات نظرتهم هذه بأن الجدوى الاقتصادية من إنتاج – البندورة على سبيل المثال – أقل بكثير من إنتاج القمح، كونها تستهلك نسبة كبيرة من مواردنا المائية، وتصديرها يعني بشكل أو بآخر تصدير ثروتنا المائية بأبخس الأثمان، ناهيكم عن أن هذا المُنتَج غير إستراتيجي ويمكن الاستغناء عنه، على عكس القمح تماماً.