مدى الجدية في المسار السياسي (جنيف 4)
د. عبد اللطيف عمران
التزاماً من حكومة الجمهورية العربية السورية بالمسار السياسي لحلّ الأزمة، ولمواجهة الحرب على سورية، بدأت أول أمس في جنيف الجولة الرابعة من اجتماعات لجنة مناقشة الدستور وسط شكوك في عدم جديّة الأطراف المتكئة على الثلاثي: العثماني الجديد- الرجعي العربي- الصهيوأمريكي، والتي من الطبيعي أن يُصعب عليها مع هكذا اتكاء مناقشة قضايا وطنية بحتة كالهوية والسيادة.
فقد ركّز الوفد الوطني خلال الجلسة الأولى في هذه الاجتماعات -من بعض ما سيؤكّد عليه- على ضرورة اعتماد موضوع عودة اللاجئين كمبدأ وطني (جامع)، نظراً إلى أهميته على الصعيد الوطني، والإنساني، والسياسي أيضاً، مشيراً إلى مخاطر تسييس هذا الملف واستثماره كابتزاز سياسي واقتصادي لعرقلة الحلّ السياسي للأزمة من بعض الدول التي تضع حججاً وشروطاً عديدة لعرقلة عودة اللاجئين على أساس من التخويف والترهيب لإقناعهم بعدم العودة.
ومن الواضح تماماً أن هذه الشروط والحجج تتناقض مع الدستور والقوانين لخلطها الحابل بالنابل، وهي تصبّ في سياق إعادة إنتاج الإرهاب وليس في سياق العودة الآمنة، كما أنها ليست بنت اليوم، بل هي تأتي في سياق مستمر منذ بداية الحرب على سورية إلى اليوم، فلطالما تنكّرت تلك الدول لمستلزمات الحلّ السياسي في ملفات عديدة، مقابل قيامها بشنّ حملة تضليل إعلامي واسعة وزائفة بأن الحكومة السورية يقلقها الحلّ السياسي، في وقت يؤكد فيه مسار الأزمة أن تلك الدولة هي التي عملت وما تزال تعمل على الانحياز إلى المسار العسكري، وإلى إطالة أمد هذا المسار لإلحاق مزيد من الضرر والخراب والدمار في البنى التحتية والفوقية للشعب السوري، وبمؤسسات الدولة الوطنية.
إن القوى الدولية، والقانون الدولي، وقرارات مجلس الأمن تركّز من حيث الظاهر على الحلّ السياسي، ولاسيما قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015، لكن الوقائع تؤكّد عدم جديّة هذا التركيز، بل هو مخاتل وفيه كثير من المراوغة والنفاق والابتزاز.
فالقرار 2254: (يؤكد من جديد التزامه القوي بسيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية، وبمقاصد ميثاق الأمم المتحدة وبمبادئه)، كما يؤكّد (كفالة استمرارية المؤسّسات الحكومية)، وفي المادة (8) منه يعيد التأكيد على ما جاء في القرار الذي سبقه 2253 (عدم تجاهل التهديد العالمي الذي يشكّله تنظيما داعش والقاعدة وما يرتبط بهما من أفراد، وجماعات، ومؤسسات، وكيانات) بل يضيف عليه: (وغيرهما من الجماعات الإرهابية).
إذ لا يستطيع أي متابع عاقل وموضوعي أن يتغافل أو ينكر الدور التخريبي الذي تمارسه قوى الاحتلال والإرهاب الثلاث ضد الحلّ السياسي، وانحيازها إلى الحلّ العسكري لفرض أمر واقع على المسار السياسي وفق التالي:
1- لايزال النظام التركي كقوة احتلال وسرقة غاشمة وغير شرعية يدعم العصابات الإرهابية المسلحة في الشمال ويشترك معها في العمل العسكري مخالفاً، أو مقوّضاً لقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ويزيد الأمر خطورة سعيه لدمج جبهة النصرة -تنظيم القاعدة كقوة سياسية في المسار التفاوضي، منسّقاً في هذا الجانب وغيره مع الاحتلالين الأمريكي، والصهيوني، فبالأمس أكّد موقع المونيتور تفاوضاً عثمانياً صهيونياً وضيع المستوى في هذا الجانب.
2- وليس الأمر مع النظام الأمريكي -إدارة ترامب- ومع الكيان الصهيوني إلا أسوأ حالاً، خاصة مع الهجوم المتنوّع والمستمر على محور مقاومة المشروع الصهيوأمريكي، ودعم مسار الاستسلام والتطبيع مع هذا المشروع الذي تعدّ سورية تاريخياً مركز مقاومته.
3- في هذه الظروف (الاحتلال- الابتزاز- الضغط- العقوبات) من الصعب جداً نجاح أي مسار سياسي لمواجهة الحرب على حقوق سورية، أو حقوق فلسطين،… أو الحق العربي بأكمله، لذلك تعمد بعض الدول إلى إطالة الأزمة، بل الأزمات، وإلى تخريب الحلّ السياسي بالعمل العسكري، وبالحصار الاقتصادي، وبالتدخّل في بنية المجتمع الوطني والعروبي لتزييف وعيه وهويته وحقوقه.
إلا أن أعداء الشعب السوري وأعداء دولته الوطنية العروبية، قوّضوا هذا القرار، ومزّقوا أهم بنوده، ما يوضح ليس فقط عدم جديّتهم في المسار السياسي، بل تخريبه من خلال ما سبق ذكره، ومن خلال استمرار وضع العقبات والضغوط على ديمستورا، وعلى الإبراهيمي من قبله، وبيدرسون من بعده، في الوقت الذي كانت فيه الحكومة السورية قد أعلنت منذ عام 2017 وعلى لسان الدكتور الجعفري (ورقة المبادئ الأساسية الـ 12 للحلّ السياسي) الهادفة إلى (بناء قواسم مشتركة للحوار السياسي بجميع اتجاهاته، وبما يشكّل امتحاناً لنوايا جميع الأطراف)، وقد كانت الورقة ولا تزال جديّة وموضوعية، والأهم وطنية، لأنها لا تشكّل امتحاناً للنوايا فقط بل للهوية وللانتماء وللسيادة.
ومع ذلك، لا نزال نحن وأصدقاؤنا وحلفاؤنا على أمل منشود بالمسار السياسي، وبالأمس أعرب السيد لافروف عن: (الأمل بأن تراجع الإدارة الأمريكية الجديدة النهج غير البنّاء تجاه الأزمة السورية).
إنها الرواية الواقعية والتاريخية الوثيقة والدقيقة التي يجب أن يعرفها السوريون جميعاً وغيرهم اليوم وغداً: إن من يتحمّل غياب الجديّة السياسية، هو من يعزّز الاحتلال والعسكرة والحصار.