“دائرة الطباشير” بصياغة الشاشة بين بريخت وزيدان في حلب
حلب ـ غالية خوجة
احتفى الفنان أيمن زيدان بأهالي حلب عبْر كلمته المسجلة التي وجهها للمشاهدين والمتلقين على مسرح نقابة الفنانين، مع العرض المسرحي الذي أخرجه “دائرة الطباشير”، وتمّ عرضه من خلال شاشة العرض الالكترونية، ضمن فعاليات أيام الثقافة السورية “ثقافتي هويتي”. وفكرة العرض تجمع ما بين الفيلم السينمائي والتلفاز والمسرح، ومع تلاقي هذه الفنون البصرية معاً، نستطيع إنشاء مصطلح بصري جديد “المسرحية الفيلم”، إضافة إلى حصولنا على فضاء استفهامي من خلال أيمن زيدان و”برتولت بريخت”، لأن النص “بريختي/ دائرة الطباشير القوقازية” والنص المُعَدّ المعروض والإخراج “زيداني”، ومن إنتاج مديرية المسارح والموسيقا، بينما الموسيقا لسمير كويفاتي، والأداء الصوتي لجوقة قوس قزح ـ حسام بريمو، والديكور والأقنعة المحمولة والإكسسوار للفنان نزار بلال، الإضاءة لأدهم سفر، والأزياء لريم شمالي، ونذكر من الممثلين: محمد حداقي، حسام الشاه، عروة العربي، وسيم قزق، كرم الشعراني، قصي قدسية، أريج خضور، خوشناف ظاظا، علاء ديار بكرلي، نور أحمد، لوريس قزق، ولاء عزام، فادي حموي، مغيث صقر.
ومعروفة قصة دائرة الطباشير القديمة، وكيف رسم القاضي “آزداك ـ محمد حداقي” دائرة ووضع فيها الصبي، لتتقاسمه الأمّان البيولوجية الحقيقية “زوجة الحام ـ لوريس قزق”، والأم المربية “غروشا ـ ولاء عزام”، وحسمت القضية للأم البيولوجية الحقيقية التي فضلت أن يبقى مع أمه المربية على أن يُشطر إلى قسمين، ولذلك، انتبه القاضي العادل النبيه، وأعاده لأمه البيولوجية الطبيعية، لكن المسرحية تعكس باستغراب نتيجة الحكم وتترك الولد لأمه المربية! مجيبة بشكل إشاري على انقلاب المعايير والأخلاق والقيم في زمن الحروب الظالمة، ومنها “دائرة الطباشير السورية”.
يقال إن هذه القصة صينية، كما أن الناقد أنور محمد الذي تحدث في نهاية العرض، أحالها إلى زمن النبي سليمان عليه السلام، وكانت العدالة في الحكم هي الأمّ الشاملة.
مرايا الحرب والسلام والعدالة
المسرحية الفيلمية التي تردد “في العصور الدامية” منذ البداية، وتنقفل على ذاتها في الخاتمة مرددة: “الأرض لمن يزرعها، يفلحها، والوطن لمن يحميه”، وذلك دون تحديد زماني ومكاني لأحداثها، في مملكة ما، والمعتمدة على صوت الراوي، وكأنه التأريخ يحكي، إضافة إلى تداخلات مقطعية فنية، أحالت أبعادها على الواقع السوري والحرب الإرهابية التي عايشها، ليوصلنا إلى النصر والسلام والحقوق، من خلال المقاربة بين القيم العادلة وما يحدث من هذه الواقعية المشوهة.
بطلان مجازيان
حاولت المسرحية العمل على البُعد الملحمي زمانياً ومكانياً وشخوصاً وأحداثاً، إضافة إلى المقاربة بين الأزمنة ووسائل العرض والمزيج بين بريخت وزيدان، ومحاولة جعل المتلقي شريكاً فاعلاً في المسرحية، التي اعتمدت، أيضاً، على البطل الحكواتي أحياناً، الذي يروي الأحداث، من خلال الاستعادة من الذاكرة غالباً، ومن خلال التوقعات المستقبلية أحياناً.
وركزت على بطلين أساسيين مجازيين هما اللغة العربية، رغم الاعتراض على منطوق بعض الشخصيات الذي لا يرى في الأنثى إلاّ جسداً، وبألفاظ دونية مباشرة، إضافة إلى حضور مشهد عري المذكر الذي يتغزل بجسمه! والذي كان من الممكن حذفه دون أن يؤثر ذلك على العمل الذي من المفترض أن يحضره أفراد العائلة صغاراً وكباراً.
أمّا البطل الثاني المجازي الذي ركزت عليه المسرحية فهو الأقنعة وهو بطل سينوغرافي، وظفه زيدان لاستخراج الشخصيات المتعددة من شخوصه المتحركة، وتحميله الحوار الذاتي الداخلي ـ المونولوغي، والحوار الخارجي -الديالوغي، لتتحول بعض “أنا” الأم، مثلاً، إلى عدة “أنوات” تتصارع فيما بينها، بين بوح وإفصاح عن آلامها وأحزانها ووجدانها وأفكارها المختلفة، فتعاتب نفسها حيناً، وتنشج حيناً، وتتحدى حيناً.
والملفت أن صياغة السينوغرافيا وبأغلب مفرداتها كانت متلائمة، مثل الأزياء، وأدوات المكان، والديكور الذي كان موظفاً بدقة، وبأدوات بسيطة متناغمة، ولكل عنصر من عناصره دور هام، وأكثر من دور، فمثلاً الكرسي يصبح سلماً أو جسراً أو مشنقة، وكل تحويل له رمزيته العائدة إلى كرسي المحكمة، وله دلالاته المتفرعة إلى متوقعة وغير متوقعة، كما تناسبت الموسيقا مع مشاهدها وحركات الممثلين الذين أجادوا الأدوار والانفعالات والملامح لولا بعض الصراخ الاعتيادي، وغير الضروري.
لقد تناولت “دائرة الطباشير” علاجات فنية مختلفة للواقع اليومي المأزوم بالحرب الإرهابية الظلامية الظالمة على سوريتنا الحبيبة، وأضاءت العديد من المفاصل الداخلية مثل الفساد، وعرت المفاصل الخارجية المتشاكلة مع الداخلية، منطلقة من تركيزها على خلفية كلامية غير منظورة، أشبه ما تكون بالخلفية الموسيقية غير المسموعة، ألا وهي جملة: “أجمل ما في الحروب هو انتهاؤها”.
أسئلة الحضور
لكن، كيف تنتهي؟ هل فقط بالسلام من أجل السلام؟ هل يعقل أن يكون الولد لأمه التي ربته؟ وأن تكون الأرض لمن يزرعها؟ لماذا لم تكن الإضاءة متناسبة مع البُعد السينوغرافي؟ وماذا لو حذفنا الأقنعة التي يحملها الممثلون، هل كان ذلك سيؤثر على العرض؟ وماذا لو حذفنا الجمل المسيئة للمرأة في العرض، ومشهد العري؟ وماذا لو اختزلنا المشاهد التي كانت بمثابة حشوٍ واستطالة، لربما كان العرض أكثر جمالية وجاذبية وإشارية؟ وماذا لو اختصرنا بعض المشاهد التي تحول فيها بعض الممثلين إلى حكواتية؟ ولماذا لم تكن الموسيقا بطلاً مجازياً ثالثاً مستمراً طيلة فترة المسرحية؟
جاءت الإجابات من المنصة الممثلة بالناقد أنور محمد والفنان المسرحي المخرج والممثل والكاتب حازم حداد مدير الجلسة الحوارية: المسرحية ركزت على العدالة من خلال رمزها وعنوانها والراسخ من قصتها القديمة التي تعتبر من تراث الشعوب، مؤكدَيْن على أن العرض يتحدث عن الحرب، بلا شك، خصوصاً، وأن أيمن زيدان فنان مثقف، يطرح فكراً وواقعاً وفناً، ومما يطرحه تأكيد على ما قاله “بريخت”: “انتهاء الحرب أقصر وأقرب طريق للسلام”.