عَوْدٌ على بَدْءٍ
د.عصام الكوسى
قبل ثلاثين عاماً شاركت ثلّة من الأصدقاء زاوية ثقافية في جريدة البعث، بيد أنَّ انتقالي من دمشق الفيحاء إلى حمص العدية وانشغالي بالتدريس في جامعة البعث حال دون الاستمرار في ذلك، وها أنا أعود، مدفوعاً بالشوق والحنين، للكتابة في هذه الجريدة التي ما زالت كما عهدتها منبراً إعلامياً مهماً يولي الثقافة ما تستحق من متابعة واهتمام.
ما أكثرَ المواضيع التي ترتسم أمام عيني، وكل موضوع يستحق غير مقال، هل أتحدث عن اللهجات والعاميات التي غزت مجتمعنا ووسائل إعلامنا المسموعة والمرئية على الرغم من التجربة الرائدة التي انفردت بها سورية وهي تجربة التمكين للغة العربية، أم أتحدث عن مكنات الولادة القيصرية الالكترونية التي تتحفنا كل صباح بعشرات الشعراء والأدباء، أم أتحدث عن النفاق الذي يسود العلاقة بين المبدع والناقد، أم أتحدث عن النرجسية القميئة التي أصابت بعضاً من أدبائنا، وانتهيت بعد إلى البدء بالحديث عن أهمية الثقافة في حياة الفرد والمجتمع.
قد يقول قائل إنّ هذه المواضيع ليست ذات بال أمام ما يتعرض له وطننا من مؤامرات تحاك له كل يوم، وقد يقول آخر: دعنا نؤمن لقمة خبز لأولادنا، فهي خيرٌ من كلِّ ما ذكرت، فالجائع في غنى عن هذه الأمور الكمالية، ورغيف خبز أهم بكثير من مقال في جريدة.
إن خير ردّ على هذا القول هو جواب السيد المسيح في حواره مع إبليس: ليس بالخبز وحده يحيا بني البشر، والخبز في هذا السياق لا يعني معناه الحقيقي، بل هو إشارة إلى كل بهجة من مباهج الحياة المادية. فثمة أشياء مهمة في حياة الفرد، وأهمها الثقافة، إذ إنها الركن الأساسي لحضارة أي أمة، وهي الفيصل الذي يميز أمة من غيرها، وهي الكوة التي تدخل عبرها إشراقة الحياة.
تعدّ الثقافة لبنة أساسية في بناء شخصية الفرد، بل هي النجم الذي يبدد عتمة الجهل وتفتح أمامه أبواب الحياة وأسرارها، وتورق في أعماقه مما ينعكس على سلوكه فيؤثر في مجتمعه وفي محيطه. فالمجتمع الذي لا يأبه بالثقافة ولا يشجع عليها، ولا يحرص عليها مصيره الانحدار والاضمحلال.
إنّ أهم أداة من أدوات الثقافة هي القراءة، فويلٌ لأمة لا تقرأ، وويل لأمة تحوّل مكتباتها إلى مطاعم وجبات سريعة، ومراكزها الثقافية إلى مقاهٍ.
إنّ نسب القراءة في عالمنا العربي- ونحن أمة اقرأ- تكشف عن واقع مخجل إذ إنّ متوسط قراءة الفرد العربي لا تتجاوز سنوياً ست دقائق بينما يبلغ متوسط الفرد الأوربي 200 ساعة سنوياً، وعالمنا العربي يصدر سنوياً كتابين مقابل مئة كلّ كتاب في الدول الأوربية.
إنا إن بقينا مستمرين في هذا التفكير السائد ستغدو ثقافتنا في مهب الريح، وسيزيدنا ذلك بؤساً وشقاء، وسنظل نندب حظنا، وسيظل الرغيف أقصى طموحنا.
القراءة.. القراءة، فأهميتها لا يَجهلها إنسان، ولا يختلف في ضَرورتها اثنان، ولا يَنكرُ فَضلها أحدٌ، فهي طوق النجاة لنا جميعاً، ولن ننهض من كبوتنا إلا إذا أعدنا للكتاب أهميته وللغة طهارتها، وللحرف قدسيته، عندها فقط يستطيع الفرد أن يدعم ثقته بنفسه وأن يكون الشخصية المبدعة وأن ينمي قدراته الفكرية التي ستنعكس إيجاباً على مجتمعه، ليسهم في بناء وطنٍ كان يوماً قبلة للعالم أجمع.