بعدما أضعفت الليرة السورية بتهريب 50% من موجوداتها للخارج.. ماذا فعلت المصارف الخاصة برؤوس أموالها وبودائع السوريين؟ وهل فعلاً استثمرتها في لبنان؟
“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود
قد يكون من المبالغة الحديث عن مخاطر تهدد ودائع السوريين في المصارف الخاصة، وتحديداً ما يطلق عليه “فروع” المصارف اللبنانية في سورية، فالمخاطر تكاد تكون معدومة، لأن الدولة تضمن الودائع في المصارف، سواء كانت عامة أم خاصة.
ولكن مع تطور الأزمتين المالية والنقدية في لبنان، إلى حد لم تعد الدولة تملك سيولة لتسديد أقساط دينها العام، وتأمين احتياجاتها من المستوردات والخدمات..
وبعد عجز المصارف اللبنانية عن تلبية طلبات مودعيها، وإلزامهم بسقف سحوبات أسبوعة وشهرية لا تكفي احتياجاتهم اليومية..
وبعد إلزام المودعين باستدرداد ودائعهم “الدولارية” بالليرة اللبنانية، وبسعرها الرسمي من البنك المركزي..
والأخطر، بعد مصادرة المصارف لرواتب الموظفين، وصرف 50% منها فقط..
وبعد أن حددت هذه المصارف سقف سحوبات المودعين حتى بالليرة اللبنانية حتى أن الفعاليات التجارية لم تعد تقبل بالدفع بالبطاقة الألكترونية..
بعد كل ذلك، لابد من التساؤل: هل تورطت المصارف الخاصة السورية في الأزمتين المالية والنقدية اللتين تعصفان بلبنان منذ عدة اشهر؟ وإذا كانت قد تورطت، فـبأموال مؤسسيها؟ أم بودائع السوريين؟
المصارف رحّلت دولاراتها إلى لبنان
لم يهتم الكثيرون بما صدر عن اتحاد العمال، في نيسان 2015، مع أنه خطير جداً!! فقد أكدت مصادر في الاتحاد منذ خمسة أعوام أن المصارف الخاصة أودعت 350 مليار ليرة بالقطع الأجنبي لدى المصارف الخارجية، دون إذن من الحكومة، أو من المصرف المركزي. وهذا المبلغ كان بحدود 50% من إجمالي موجوداتها النقدية آنذاك!!
ونتوقع أن يكون الجزء الأكبر من القطع الأجنبي ذهب إلى المصارف اللبنانية التي تشرف “بشكل غير قانوني”، مباشرة، على “فروعها” في سورية، بالتنسيق مع مؤسسيها السوريين من التجار ورجال الأعمال، وعددها سبعة مصارف. ونجزم الآن أن هذه الدولارات استقرت في المصارف السويسرية، ولم يعدها مؤسسو المصارف السورية إلى سورية!
ولعل السبب الرئيسي الذي أدى إلى زيادة الطلب على الدولار، منذ عام 2014 على الأقل، هو “ترحيل” المصارف الخاصة لدولاراتها إلى الخارج، وتحديداً إلى لبنان؛ وهذا يعني أن المصارف الخاصة تسببت بخروج كتل كبيرة من القطع الأجنبي من التداول في السوق، ما زاد الطلب على الدولار بفعل تقليص العرض منه على مدى السنوات الماضية.
ولا نستبعد أن تكون المصارف الخاصة استخدمت الجزء الأكبر من أموال صغار المودعين، فحولتها إلى دولارات، “وهربتها” إلى لبنان كي تحقق من خلالها أرباحاً فاحشة. ونشير إلى أنه، في الفترة التي تحدث عنها اتحاد العمال عن تهريب المصارف لأموالها، كان سعر صرف الدولار في السوق السوداء يتأرجح بين 150 و200 ليرة سورية؛ أي أن “فروع” المصارف اللبنانية بتحويل رأسمال مؤسسيها، وجزء كبير من ودائع السوريين، إلى دولارات، و”تهريبها” إلى لبنان، حققت أرباحاً لا تقل حالياً عن أربعة أضعاف، باستثناء الفوائد عليها، سواء جمدتها لسنة، أو اشترت بها سندات خزينة لبنانية!
ويطالب اتحاد العمال، منذ عام 2015، بعودة هذه الأموال إلى سورية، ولكن لمن يقرع الاتحاد أجراسه؟
لا توجد معلومات مؤكدة حول ما “هربته” المصارف الخاصة، خلال السنوات الخمس الماضية.
هل يمكن استرداد الأموال؟
والسؤال: هل بإمكان المصرف المركزي التدقيق في الميزانيات الختامية للمصارف الخاصة، للتحقق من أن المبالغ المسجلة “ورقياً” موجودة “نقدياً” في خزائن المصارف؟
والسؤال مشروع جداً بعد قيام المصارف اللبنانية بتهريب مليارات الدولارات إلى سويسرا، وسواها، خلال انفجار الأزمة النقدية، بالتواطؤ مع مصرف لبنان المركزي!
وتسبّب تهريب القطع الأجنبي بفقدان الليرة اللبنانية لأكثر من 60% من قدرتها الشرائية، وعجز الحكومة عن تمويل مستوردات احتياجات اللبنانيين الأساسية، من قمح ومحروقات وأدوية وسلع غذائية. وهذا يؤكد أن المصارف الخاصة في سورية هي التي تسببت بتقليص كتلة الدولارات المتداولة، وبتراجع سعر صرف الليرة، أي تماماً مثلما يحدث في لبنان منذ أشهر، مع فارق أن المصرف المركزي السوري قادر على تمويل جميع احتياجات السوريين الأساسية على خلاف نظيره اللبناني.
ومثلما تخطط الحكومة اللبنانية لإقناع المصارف اللبنانية – لأنها غير قادرة على إلزامها – بإعادة مليارات الدولارات التي هربتها للخارج، كي لا تقع الكارثة المحققة، فإن على الحكومة السورية أن تضع المصارف الخاصة – وتحديداً “الفروع اللبنانية” – تحت المجهر من خلال المصرف المركزي لتقوم بإعادة ودائعها “الدولارية” في الخارج إلى سورية!
ولا شك أن المصارف الخاصة السورية تراهن على ثقة المودعين السوريين من جهة، وعلى قدرتها من خلال الودائع الجديدة على تلبية السحوبات الصغيرة، بل والسحوبات الكبيرة التي نادراً ما تحدث إلا في حالات شراء عقارات أو سيارات فقط. لكن هذا لا يكفي.. على الحكومة أن تلزم المصارف الخاصة بطريقة ما بأن تعيد ملياراتها إلى الداخل، ما يتيح زيادة كتلة الدولار المتداولة، ويعمل حتماً على تحسين القدرة الشرائية لليرة السورية.
نعم.. لقد فعلوها!
قد يستبعد البعض أن تكون المصارف الخاصة قد هرّبت أكثر من 50% من أموالها إلى لبنان، لكننا نجزم أنها فعلتها، لأن مؤسسي المصارف الخاصة من رجال المال، أو التجار، ومعهم أصحاب المصارف اللبنانية، هم الشريحة التي لن تتردد باسثمار أموالها بالمضاربة بالدولار. وإذا كانت المصارف اللبنانية القطاع الوحيد الذي يحقق الأرباح، دون سائر القطاعات الإنتاجية، بفعل استثماراته بإقراض الحكومة، وشراء سندات خزينتها، ولا يتردد لحظة واحدة بتهريب مليارات الدولارات إلى سويسرا، فهل ستتردد “الفروع” عن “فعلها” في سورية، ولا تقوم بتهريب نصف أموالها، على الأقل، إلى الخارج أيضاً؟
الحميع يعرف أن كبار التجار والصناعيين، أو من يطلقون على أنفسهم “رجال أعمال” يملكون المصارف الخاصة، ومع ذلك لم يستثمروا، ولم يمولوا مشاريع إنتاجية، تماماً مثلما يفعلون في لبنان.
وعلى الرغم من الأخبار التي تم تداولها، منذ عام 2013، بأن التجار ورجال المال قد تلاعبوا بسعر صرف الليرة من خلال تحويل الجزء الأكبر من سيولة مصارفهم إلى دولارات، وتهريبها إلى الخارج، فإنهم لم يكذبوا “الإشاعة”!!
وربما آثروا عدم التعليق كي لا يتشعب الأمر، ويتحول إلى ضغط يلزمهم بتقديم وثائق تنفي ما فعلوه.
وبما أن عدة مصادر لبنانية تؤكد أن ودائع السوريين في لبنان تصل إلى 50 مليار دولار، فإننا لا نستبعد أن يكون جزء منها عائداً لفروع المصارف اللبنانية الخاصة في سورية.
هل ساهمت بتسديد الدين العام؟
مرة جديدة، يعود اتحاد العمال، مطلع العام الحالي 2020، ليكشف في دراسة أعدها الدكتور علي كنعان، رئيس قسم المصارف في كلية الإقتصاد بجامعة دمشق، أن ربع الودائع في لبنان، وقيمتها 50 مليار دولار من إجمالي الودائع البالغة 177 مليار دولار، تعود للسوريين (أفراد، ورجال أعمال، ومصارف، وشركات تأمين).
ولفت كنعان إلى أن قيام المركزي اللبناني برفع سعر الفائدة في السوق النقدية اللبنانية على الودائع بالقطع الأجنبي من 6% إلى 9.89% أساس، وإلى 14% للمبالغ الكبيرة، دفع المودعين السوريين للتوجه ثانية إلى الإيداع في المصارف اللبنانية، وجذب السيولة من سورية إلى لبنان.
ولا توجد معطيات تنفي – أو تؤكد – انخراط المصارف الخاصة السورية في هذا الأمر، لكن المؤكد أن هناك احتمالية كبيرة لأن يكون المصرف المركزي اللبناني استثمر مليارات السوريين، ومليارات فروع المصارف اللبنانية في سورية، لتمويل عجز الكهرباء والموازنات اللبنانية، ولتسديد أقساط الدين العام.. إلخ!!
ماذا فعل كبار المساهمين بالقروض؟
ولم يتوقف الكثيرون أيضاً عما فعله كبار المساهمين بأموال المصارف التي أسسوها. لقد أقرضت بعض المصارف الخاصة عدداً من أعضاء مجالس إداراتها في بداية تأسيسها مبالغ تصل إلى أكثر من 200% من حصتهم في رأسمال المصرف المساهمين فيه، وكأنّ هذه المصارف تأسست لاستجرار سيولة المودعين فقط. ومع ذلك نسأل: ماذا فعل كبار المساهمين بالقروض التي استجروها من “مصارفهم”؟
نظرياً، اقترض كبار المساهمين على اسم شركات قاموا بتأسيسها على الورق. فعلياً، تم تحويل القروض إلى دولارات شقت طريقها إلى مصارف خارجية، وتحديداً إلى لبنان، ومنه إلى الخارج، قبل انفجار الأزمة النقدية. والأخطر.. أن هذه القروض الكبيرة تعني أن المصارف الخاصة لم تتأسس من أموال رجال المال، وإنما لخدمة رجال المال، وشكلت باباً واسعاً لتهريب الأموال.
أكثر من ذلك.. المصارف أقرضت كبار مساهميها أموال المودعين، عندما كان سعر صرف الدولار أقل من 50 ليرة سورية، لذا – وحتى لو أعادوا القروض للمصارف – فهي لن تساوي شيئاً مقارنة بقيمتها الحقيقية اليوم.. هذا إذا ما أعادوها!
ومرة أخرى نسأل: هل استثمرت القروض، التي استقرت في المصارف اللبنانية، لتغطية عجز الكهرباء، وتسديد دين بلد آخر، بدلاً من أن تستثمر في سورية؟
التهريب قديم
تهريب الأموال من سورية ليس بالأمر الجديد، وغالباً ما يتم بالتواطؤ مع مصارف خاصة؛ ففي العام 2013، مثلاً، قامت بعض الدول الأوربية بتزويد الحكومة السورية بحسابات مصرفية لرجال اعمال ومسؤولين سوريين تبين من خلالها أن عدداً من رجال الأعمال السوريين لديهم مبالغ كبيرة في الخارج، وهم ممتنعون عن تسديد قيمة قروضهم للمصارف السورية، بحجة توقف أعمالهم، وكشفت حساباتُ رجل أعمال – يعمل بمجال النفط – تحويلات مشبوهة لا تناسب حجم عمله؛ كما كشفت البيانات أن أحد رجال الأعمال السوريين – وهو وكيل لشركات كورية ومقيم بدبي – بلغت قروضه في المصارف السورية عشرات ملايين الليرات، ورصيده في المصارف الأجنبية والعربية تحتوي على ملايين الدولارات، ومع ذلك هو متوقف عن سداد قيمة قروضه في المصارف السورية؛ وبحسب البيانات المصرفية، فإن رجل أعمال مقيم في دولة أوروبية، ويعتبر أحد البارزين في تجارة الورق، تجاوزت قروضه المتعثرة في المصارف السورية 700 مليون ليرة، وهو متوقف عن السداد، في حين أظهرت حساباته المصرفية في الخارج حركة بعشرات ملايين الدولارات!
أين الأربعون ملياراً؟
ترى، إذا كانت الأموال شحيحة في المصارف والبنك المركزي في لبنان، فماذا عن مليارات السوريين؟
وأين نصف أموال المصارف الخاصة التي “هربتها” للخارج منذ عام 2014؟
إن الاحتياطات، التي يكرر حاكم مصرف لبنان الحديث عنها، ليست، في حقيقة الأمر، إلا موجودات تتألف بغالبيتها من أموال المودعين التي أودعتها المصارف في المصرف المركزي. ولا يخفي المصرف أن لديه 30 مليار دولار أمريكي، وأنه، في الوقت ذاته، مديون للمصارف بـ 70 مليار دولار، أي بعجز قيمته 40 مليار دولار – أو 52 مليار دولار، كما تحدث بعض الخبراء – فإذا دفع البنك المركزي أقساط الديون فإنه يسدّدها من أموال أمن اللبنانيين الغذائي وسبيلهم الوحيد للحماية من الجوع، ويدفع أموالهم ليسد أموال الدائنين. بمعنى أوضح، دفع الأموال للدائنين يعني سرقة أموال المودعين.. وأموال المودعين هنا تشمل أيضاً ودائع السوريين!
“فروع”.. أم مستقلة؟
وكما قلنا، فإن المودعين السوريين ليسوا قلقين على أموالهم في المصارف اللبنانية الخاصة، لأنها مضمونة 100% من الدولة، لكن السؤال المشروع: هل “فروع” المصارف اللبنانية في سورية تطالها إجراءات قيود السحب والتحويل، أي “الكابيتال كونترول”؟
في العموم، فإن القيود المصرفية والإجراءات التي تمارسها المصارف اللبنانية لا تقتصر على فروعها المحلية، بل تشمل جميع فروعها الخارجية. وفعلاً، يعاني جميع المتعاملين مع فروع المصارف اللبنانية في الخارج، فلا دولارات تتجاوز سقف السحوبات المسموح به أسبوعياً، ولا تحويلات مالية، ولا سحوبات عبر البطاقات، ولا تسييل شيكات مصرفية.. إلخ. إنها فعلاً ورطة لجميع المودعين في فروع المصارف اللبنانية في الخارج.. باستثناء سورية!
فلماذا لا تخضع المصارف الخاصة السورية، التي تحمل أسماء مصارفها الأم – باستثناء مصرف واحد – لقيود المصارف اللبنانية؟
في سورية سبعة مصارف يمكن تسميتها بمصارف لبنانية: بنك عودة، بنك سورية والمهجر، بنك بيبلوس، بنك بيمو السعودي الفرنسي، فرنسبنك، بنك الشرق، بنك سورية والخليج. والواقع أن هذه المصارف ليست فروعاً، وإنما هي مصارف مستقلة عن المصارف اللبنانية الأم، تديرها شركات خاصة مملوكة من مجموعة مساهمين بينها مصارف لبنانية؛ وبالتالي ليست معنية بتطبيق أي قيود وإجراءات تصدر عن المصارف اللبنانية، أو البنك المركزي اللبناني، فهي خاضعة كلية للأنظمة والقوانين السورية، ولا تلتزم إلا بما يصدر عن بنك سورية المركزي.
والأهم أن سيولتها وميزانياتها ورساميلها لا تندمج مع ميزانيات المصارف المقيمة في لبنان.