كتابة الأثر.. وأثر الكتابة
أحمد علي هلال
على الأرجح أنه ما من كتابة إلا وتذهب إلى أثرها المحتمل ونداء مجهولها البعيد، كي تحمل الروح إلى أمداء بعيدة تتجاوز فيها تضاريس الأمكنة لتصبح عابرة للخطابات، وما من كتابة إلا وتتعالق بزمنها السردي/ الإبداعي… كان هذا الهاجس الأصيل هو من شكّل هوية الكتابة في أزمنة بعينها لتصبح جديرة بقرائها المحتملين الآتين من أزمنة مختلفة، لكنهم المنتبهون أكثر إلى دينامية الكلام حينما لا ينغلق على زمنه، ويبقى زمنه المتوهج هو القادر على إنتاج لانهائية الاحتمالات، إذ إن الزمن هنا روح وجوهر، بل حركة تتسق فيها صيرورات الكاتب بصيرورات نصه ويبقى المتغير هو الثابت الوحيد.
الزمن في تسارعه المحسوب في أوقاتنا الرقمية هو الجدلية التي تنهض عليها مآلات الإبداع وشروط كثافته الجمالية والرؤيوية، بل أكثر من ذلك أن تسأل كاتباً بعينه لمن تكتب؟، والمعنى هنا ليس في التقاط الجواب الجامع والمانع، بقدر ما هو إنتاج السؤال القادر على الاستدلال، انطلاقاً من محبة ما نكتب وهندسة ما نشعر به، أي نظام الكلمات والأشياء في تناظرهما وفي القدرة على التوليد والابتكار، بل الاجتراح لما نعنيه الآن بنصوص الحياة الجديدة، نصوص الحساسيات الحداثية في التصور والتفكير وصولاً إلى آليات التعبير المبهجة، دون الانتقاص من ما يعني لذة النص بإيجاد قارئه، ولعل قارئه/ الزمن من يثري الدلالة ويفيض بها تعدداً وإثراء للجنس الإبداعي الذي تتخلق شروطه في سياق حواري –كما يُفترض- وهنا أُسّ الكتابة أي في جذرها الحواري مع الذات والآخر والعالم، وفي أشكال صوغها لسردياتها الكبرى حينما تسعى لالتقاط المعنى الجمعي الذي يعنى البشر الحالمون بأن تكون الكتابة مرايا أرواحهم وفيها تتصادى وجداناتهم بغير مقام وهيئة.
فهل كان صاحب «أثر الفراشة» الشاعر الراحل محمود درويش يعني ذلك، أو يتطير إلى أن يكون المعنى الذي يريده تداولياً؟!، وهكذا تذهب نصوصه إلى أزمنتها الخالصة متجاوزة متعاليات واقعها، لتهبط فراديسها المشتهاة، من قلق اختماراتها حتى لا تكون اللغة منفى، أثر الفراشة هو أكسير الرؤيا حينما يريد مبدع ما أن يكسر الوقت ليمضي بمشيئة لغته وكيمياء روحه وعناصرها الحميمة، إذ إنه من يؤنسن الحزن ويدع للألم أن يورق أكثر، وهو المتعلل بأسئلة ستأتي أجوبتها نافلة، فقدر الكاتب أن يتماهى مع ما يكتب، ولتكون كتابته أقرب إلى كتابة المعيش، لكنه يتخلق كما روحه في تدوين ما يكتب، فالواقع أكثر من وثيقة لكن الإبداع بوصفه وثيقة نهائية هو شأن الكتابة وما يخصها وما جعلنا قادرين على أن نسائلها أكثر، إلى أين تذهب وهي المحمولة على قلقنا المعاصر وتوسلنا لمستقبل سنبقى على قيد هاجس جميل هو أن نأتي منه كما كل أثر كتابي، كانت «كل الأسماء» لـ جوزيه ساراماغو هي برزخ بين الموت والحياة، تلك الجدلية التي تذهب إليها الكتابة مطمئنة بدورات حياتها الكثيفة.