الإجراءات الوقائية توفر العلاجية
كثيرة هي المشاريع الخدمية والإنتاجية على الساحة الوطنية، التي تتطلب رصد مبالغ مادية لصيانتها أو ترميمها أو تجديدها أو إحداث الجديد منها، ولكن كمٌّ غير قليل من هذا المطلوب يتأخر إنجازه في حينه، تحت حجة عدم وجود إمكانات مادية وبشرية كافية لهذه الغاية، وغالباً ينجم عن التأخير تبعات لها أضرارها المتعددة، كأن لم يتم تخصيص مبلغ لترميم بناء متردي أو متصدع أو سيء التنفيذ، أو اتخاذ قرار بهدمه وتنفيذ ذلك فنياً بعد إخلائه، ما يؤدي لاحقاً لأن يتهدم البناء ذاتياً على من فيه من بشر وموجودات، وإثر ذلك يتحتم وجوب اقتضاء تخصيص رصيد مالي طارئ وعاجل لمعالجة واقع التهدم الحاصل ومنعكساته المتعددة الأوجه، وبتكاليف تعادل أضعاف المبلغ الذي كان يكفي للمعالجة الوقائية، عدا عما ترتب على ذلك من خسائر كبيرة آنية أو بعيدة المدى، وقد حدث مثل ذلك في أكثر من مكان وزمان، والحال نفسه حال إبداء العجز عن تخصيص مبالغ مالية لصيانة أو إصلاح أو تجديد آلة أو منشأة توقفت عن العمل نتيجة أعطال حدثت، ما قد يؤسس لخروج الآلة أو المنشأة من الإنتاج كلية لزمن معين، وترتُّب خسائر كبيرة ذات أوجه متعددة جراء ذلك، تتطلب نفقات معالجة تبعاتها أضعاف النفقات الوقائية، عدا عن النفقات اللاحقة الكبيرة جداً، واللازم توفرها ورصدها حال الحاجة الماسة لإجراء الصيانة والتجديد اللازمين أو إحداث منشأة جديدة مماثلة، والطامة الكبرى حال إبداء العجز أو القصور اللاحق في تنفيذ الترميم أو الإحداث، وقد حدث الكثير من ذلك، وما تعرضت له أبنية ومعدات عشرات منشآت القطاع العام – بالتتابع – خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وخروجها كلية من الإنتاج دون إحداث البديل اللاحق، دليل واضح ومؤسي جداً.
ومن المؤكد أن ضعف الإجراءات الوقائية ( شق طرق زراعية – طرق نارية – فتح آبار مياه احتياطية- زيادة آليات الإطفاء وملحقاتها ونشرها في النواحي واللبلديات ) التي لم تحدث في حينها بشكل كافي تحت حجة عدم وجود أرصدة مالية كافية أو حجج أخرى، والتي كان من المتوجب حدوثها مسبقا، لاجتناب حدوث الحرائق، والتمكين من المسارعة في إطفائها للتخفيف من خسائرها، ما تسبب بضعف القدرة على إطفاء الحرائق بالسرعة المطلوبة، وتخفيف مساحة الحقول المحروقة وتقليل حجم الخسائر التي حصلت، ولولا أن تتم مواجهة الحرائق باستخدام الجهات الرسمية المعنية الأمثل، لما هو متاح من تجهيزات ومعدات، وتكثيف مشاركة المجتمع الأهلي الطوعي، لكانت الخسائر أكبر بكثير، وبالتالي فإن ضعف رصد المبالغ اللازمة لتنفيذ الإجراءات الوقائية الواجبة الحدوث المسبق، تسَبَّب بتخصيص نفقات أضعاف تلك المبالغ لتنفيذ الإطفاء والتخفيف من المساحات التي طالها الحريق، عدا عن الخسائر الكبيرة للموسم السنوي للحقول المحروقة، وخسارة مواسمها لعشرات السنين اللاحقة، ما انعكس أضراراً كبيرة جداً على اقتصاد الأسر التي تضررت حقولها، وعلى الاقتصاد الوطني بشكل عام، واقتضاء اتخاذ القرار الرسمي بالحد من نفقات الاستثمارات الإنتاجية المرصودة لها مخصصاتها أو التي يجب أن يتم رصدها لذلك، وتوجيه رصدها باتجاه معالجة نتائج الحرائق.
واقع الحال هذا قائم في أكثر من ميدان، ولعل الأكثر خطراً ماهو قائم في الميدان الصحي، إذ أن بعض نفقات الإجراءات الوقائية اللازمة والقليلة التكاليف في الميدان الصحي، وخصوصاً فيما يتعلق في الإجراءات الوقائية اللازمة، لاجتناب الكثير من حالات تلوث الماء والهواء والمنتجات الزراعية والصناعية الغذائية، ما كان ناجماً عن سوء استخدام الأسمدة والمبيدات الزراعية أو مخلفات الصرف الصحي، أو استخدام مدخلات غير صحية في الصناعات الغذائية، توفر علينا الكثير من نفقات الإجراءات العلاجية في هذا الميدان، أكان فيما يتعلق في بناء المستشفيات والمراكز الصحية، وما سيتطلبه ذلك من تبعات نفقات كبيرة لاحقة لغاية متطلبات التشخيص والاستشفاء والعلاج، ومن المؤكد أن الاستثمار الأمثل للنفقات الوقائية اللازمة في ميدان توفير الوقود والطاقة فيما مجال الحد مما نعانيه الآن من التقنين المترجرج في تقنين الوقود وانقطاع التيار الكهربائي، كانت تقينا من كثير من التكاليف الكبيرة التي تنجم عن معالجة انقطاع التيار والتكاليف المترتبة على تبعات انقطاعه استهلاكا أسريا أو مؤسساتيا.
لقد ثبت بالدليل القاطع أن تأجيل أو عدم تنفيذ الكثير من الإجراءات الوقائية بكلفة دنيا، في العديد من المجالات، تحت أية حجة، بما فيها حجة الشكوى من عدم توفر بعض الإمكانات المادية والبشرية اللازمة للتنفيذ في حينها، كثيراً ما يوصلنا إلى حالة كارثية نجد أنفسنا ملزمين حينها، لأن نؤمن نفقات متطلبات علاجية عاجلة آنية ولاحقة أكبر بكثير مما كان يتطلب ذلك وقائياً، فالتزام تقنين الوقاية المسبقة بآلاف الليرات ينجم عنه إلزام تكثيف العلاج اللاحق بملايينها، ولا ننسى أهمية اتخاذ الإجراءات الوقائية التي تقضي باجتناب تعيين مسؤول فاسد أو غير كفء، والمسارعة في عزله قبل استفحال فساده، فما أحوجنا إلى الإجراءات الوقائية التي توفر الكثير من التكاليف العلاجية، ولكن تبقى الطامة الكبرى حال خيَّم الفساد على حالات الانفاق الوقائي أو العلاجي، أو كليهما معاً.
عبد اللطيف عباس شعبان / عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية