“بيني وبينكِ سرّ”
المرة الأولى التي نلت فيها ليرة سورية كاملة، كانت من جدي لأبي رحمه الله، في صباح أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة، أراد أن يُحفزني للعلم في اليوم الأول من الأيام الطويلة التي قضيت فيها جل حياتي فوق مقاعد الدراسة، ولحد اللحظة لم أزل طالباً يحني رأسه للعلم.
جدي يدرك أن اليوم الأول للطفل في المدرسة، فيه يحسم الإنسان خياراته مع هذا الشأن إما تبقى فيه صامداً على مقعدك حتى رنين جرس “الانصراف”، أو تخرج من أول باب تجده إلى الشارع.
إنها في جيبي ليرة سورية كاملة، كنزي الصغير في جيب مريولي المدرسي، أنا استطيع أن أذهب إلى دكان الأكلات الطيبة والكازوز الملون، استطيع أن اشتري من هذا وذاك بربع قيمة ما في جيبي من نقود، ليرة سورية كاملة.
من فرحي بها، بعد سنين من خرجية القروش الخمسة أو تلك ذات العشرة، لم يستطع أي شيء يسيل له لعاب الطفل حتى (راس العبد) العنصري، لم يستطع أن يفعلها ويُخرجها من قبضتي؛ لقد كانت علاقتي معها تلك اللحظة، علاقة عاطفية، ليست مع عملة معدنية، بل مع فرح مدور يلمع.
تلك الليرة لم تكن نقوداً بالنسبة لي، بل هدية ثمينة، خصوصاً وأنها المرة الأولى التي تقبض فيها يدي بشدة على قطعة نقدية بهذه الفخامة والثقل، لقد وقعت في غرامها وصارت تنام إلى جانبي أغفو وتغفو بكل اطمئنان ودعة.
مرت الأيام وصارت الليرة السورية الكاملة، مصروفي اليومي في المدرسة، كان باستطاعتي أن اشتري فيها كازوز، وبسكوت لذيذ، مدور، بوجه مبتسم وخدود حمر، تكاد لفرط جماله، لا قلب لك أن تأكله.
لكن تلك المرة الأولى للتعامل مع هذا المبلغ، لا يمكن نسيان أي تفصيل منها، ولكل مرة أولى بصمتها التي لا تُمحى من البال، ولو تم الظن بنسيانها، فهناك من يعرف قيمة هذه المرة الأولى، ولخوفه عليك أن تنساها، يقوم على حفظها في “ميموري كارد” اللاوعي، وستبزغ كشمس في لحظة تكون فيها بأمس الحاجة لها، كما حصل معي عندما أصابني الوجع في قلبي، وأنا انظر إلى الحال المُحزن التي صارت عليه تلك القطعة المعدنية المدورة.. إنها ترقد مريضة، وجهها محته التجاعيد، ونسرها الفارش جناحيه بشموخ على ظهرها، تبدو كسرة حزن في عينه الناظرة فوق جانحه الأيمن المهيب.
لاعبتها كما فعلت زمن الطفولة، لكن ابتسامتها كانت باهتة، وملامحها اللامعة في ماض من الزمان، صارت شاحبة وتصيب بالدوار.
بيني وبينك حكايات فرح لم تزل صورها تهز ذاكرتي المثقوبة.
أنا ومن هم من جيلي، نعرف تماماً أية بهجة زرعت في ضحكتنا الطفولية، ولن تضيع تلك الفرحة، ستعود الضحكة إلى وجهك أيتها العزيزة، دعيني أتمنى لك هذا من قلبي وهذا أضعف الإيمان وأثقله.
تمّام علي بركات