دراساتصحيفة البعث

التأصيل الحداثيّ لمفهوم العلمانية بات حاجةً ثقافيةً عربيةً في عصر النيوليبرالية المتوحشة

د. سومر منير صالح

عادة ما تثير الأحاديث والندوات والمؤلفات عن العلمانية جدلاً في الأوساط الاجتماعية والعلمية في آنٍّ، ومردّ ذلك الخلط بحسن نيةٍ أو دونها بين العلمانية كمكونٍ حداثيّ لا يمكن تجزئته، والعلمانية باعتبارها فهماً كليّاً للكون والحياة، لذلك لابدّ من تفكيك الجدل العلمانيّ، بالعودة إلى منابعه الفكرية لفهم التحوّلات التي رافقته.

فالعلمانية كمصطلحٍ هيّ مكونٌ حداثيٌّ هادفٌ إلى ضبط حركة المجتمع ووحدته حين نشأ في بيئته الأصل، وهيّ الغربية الأوربية، هذا المفهوم بالتحديد تعرض لتغيّراتٍ بنيويةٍ في صيغه مع دخول المجتمعات الغربية مرحلة مابعد الحداثة ومنتجها النيوليبرالّي الرأسماليّ المعولم (الليبرالية الحديثة)، وحقيقة ما حصل أنّ فهمنا في الثقافة العربية للعلمانية ترافق مع انقلاب تيار ما بعد الحداثة على الحداثة الليبرالية ذاتها، فأخذ الفهم الجمعيّ العام العربيّ للعلمانية المعاني الما بعد حداثية وذلك لأسباب كثيرة، والتي غلبت عليها النزعة العدمية الإلحادية، وأخرجت العلمانية عن سياقها الحداثيّ العقليّ الموضوعيّ المدنيّ، الذي كان قد كرّس العلمانية كفهمٍ للمقدّس في إطاره الفردي بعيداً عن فرض الفهم المؤسسيّ الدينيّ له، وكانت العلمانية نهجاً في الحياة ورؤيةً دون أن تكون أيديولوجيا.

ولكن، دخول تيار الحداثة في أزمةٍ بنيويةٍ ومأزقٍ فكريّ بتحوّل الإنسان إلى سلعة، وظهور التيارات العدمية بنتيجة الحربين العالميتين، أدى إلى ظهور تيار ما بعد الحداثة ومنتجة النيوليبرالي، الذي ينادي بهدم وتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت على الحداثة كالعقل والهوية والمنطق..، وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف، واقترنت ما بعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدمية والتفكيك واللامعنى واللانظام، وعليه إنّ مرحلة ما بعد الحداثة هيّ مرحلةٌ نقديةٌ للأسس التي قامت عليها الفلسفة الحداثية ذاتها، وفي مقدمها نقد العقلانية الحداثية، والوضعية الحداثية، والترويج للنسبية الأخلاقية، هذه النسبية جعلت المجتمعات عرضةً للتفكك والدعوات الشاذة، بينما الحداثة هيّ منظوماتٌ معرفيةٌ تستند إلى العقل والعقلانية في إحداث تجديدٍ جذريٍّ في المجتمع عموماً، بناءً على التقدّم العلميّ المنجز ورسوخ قيمة التغيير والابتكار في المجتمع، وبالتالي الحداثة ليست مفهوماً اجتماعياً أو سياسياً أو تاريخياً فقط، وإنّما هيّ منهجٌ للتقدم والتطور الدائم، لا يلغي القيم الروحية بل يحافظ عليها ضمن ضوابط المواطنة وحقوق الإنسان.

استنتاجاً مما سبق يمكننا الخلوص إلى نتيجةٍ مهمةٍ وهيّ أنّ الليبرالية أعطت الوجود الإنسانيّ قيمته، وهو ما انكرته النيوليبرالية (الليبرالية الحديثة) بطابعها العدمي، وإذا كانت العلمانية ركن أساس في مشروع الحداثة، فإنّ مابعد الحداثة أهمل العلمانية باعتباره أهمل القيمة الروحية بحدّ ذاتها.

والحقيقة أنّه إذا كانت المشكلة الغربية فكرياً تم تداركها بالانتقال إلى بعد ما بعد الحداثة وإعادة القيمة الروحية إلى الوجود الإنساني، فالمشكلة في الثقافة العربية مازالت تمثّل استعصاءً مزمناً، لسببين الأول هو عدم معايشة العرب للحداثة أو قدرتهم على بناء حداثةٍ عربيةٍ فريدة، والثاني هو أزمة التعاطي العربية مع المصطلحات الغربية الوافدة، حيث يعاني الفكر العربيّ المعاصر من أزمة المصطلح في محاولة ضبطه وتقديمه للمتلقي، وغالباً ما كان المصطلح الغربي الواحد يُقدّم بأكثر من معنىً  في الخطاب نتيجة اتجاهات أيديولوجية أو فكرية للمترجم، مما أشاع غموض المصطلحات، كما أنّ تجريد هذا المصطلح من دلالاته التي اكتسبها في بيئته الأصلية في محاولة نقله إلى الثقافة العربية بكلّ ما يحمله من زخمٍ فكريٍّ يخلق أزمة مصطلحية بين المشتغلين في حقل الدراسات الفكرية، ومن هذه المصطلحات الإشكالية هو مصطلح العلمانية، ففهم العلمانية من منظور الوقوف على نشأة المصطلح واشتقاقه، أو المصطلحات المناظرة التي تُرجم إليها في السياق العربيّ الإسلامّي (الدهرية، واللادينية، والزمنية، والدنيوية) لن يفيد كثيراً في إدراك حقيقة هذه الظاهرة الاجتماعية، فمضمون العلمانيّة نَحَتهُ التاريخ عبر تراكم من الأحداث والتجارب، فهيّ تواريخ وحضارات وثقافات متنوّعة، وليست مجرد مصطلح، كما أنّ التعريفات الأولية البسيطة للعلمانية باعتبارها مجرد فصلٍ للدين عن الدولة هي تعريفاتٌ مختزلةٌ لا تحيط بالظاهرة من أبعادها المتعدّدة القيمية والمؤسسية والهوياتية والوظيفية، فمصطلح العلمانية عندما يُستخدم في الأكاديميا أو في الجدل السياسيّ لا يمكن التأكد تماماً ما هو المقصود به بالضبط، هل هو مجرد فصلٍ مؤسسيّ تنظيميّ بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة، أم هو الفصل القيميّ والمعياريّ بحيث تكون للسياسة منظومتها القيمية الذاتية المغايرة للمنظومة القيمية للدين، أم هيّ رفض المنهجية المعرفية الدينية والتأكيّد على الأبستمولوجيا العلمية الوضعية، أم أنهّا تستخدم كمناقضٍ للدينية، له رؤيةٌ كونيةٌ مادية، ولكن بالتحليل النهائيّ فالعلمانية هي تعبيرٌ عن اتجاه فكريّ مقابل للتيار الثيوقراطي، لا يستند إلى المقدّس كي يفرض على الجميع وجهة نظرٍ موحدةٍ عن الحياة والكون، ولا يحتمي بالمقدّس كي يسلب من الآخرين الحق في التعبير عن آرائهم وممارسة معتقداتهم.

وهذا ما يحتّم علينا فهم العلمانية في سياق مشروع حداثيّ عربيّ فريد وأصيل، بعيداً عن فهمه في بيئة مغايرة للثقافة العربية، لم تعاني –الثقافة العربية- إشكالية ازدواجية السلطة الزمنية والروحية، وعملية اسقاط المضمون الغربي للعلمانية على بنية الثقافة العربية الحالية بما تعانيه من مشكلات، أدى إلى نفورٍ جمعيٍّ من العلمانية وإلقاء شبهة الالحاد على من يتحدّث بها، الأمر الذي يحتّم إنتاج فهمٍ جديدٍ للعلمانية ضمن مشروعٍ حداثيّ عربيّ يراعي الخصوصية الثقافية العربية، وعدم الركون فقط إلى فهمه في بيئته الغربية التي تعاني من تحولات فكرية وثقافية لا تتناسب مع ثقافتنا العربية المعاصرة.

باختصار العلمانية سياق معرفيّ ضمن رؤيةٍ شاملةٍ للمجتمع تهدف لتحقق كينوننته، وليست اتجاهاً سياسياً أو أيديولوجياً معادياً للدين، بل اتجاهٌ يضمن حرية العبادة ويضمن تنوّعها، باعتبارها حقاً للفرد في المجتمع، يحارب التطرف والتعصب وينبذ الكراهية، ويرتبط ارتباطاً مباشراً بالمواطنة كمحددٍ للعلاقة بين مكوّنات المجتمع، هذا السياق ليس بغريب عن التراث الحضاري لمنطقتنا وثقافتنا فحضارات المشرق القديم سيما ذويّ الأصول العربية كالأكادية والبابلية والفينيقية تُعتبر المهاد الأول لتلك المضامين، فالملك سرجون الأكدي يعتبر من أوائل الحكام الذي عملوا بمنطق السلطة العلمانية لا الدينية، حيث ألغى جميع محاكم الهيكل الدينية وأنشأ محاكم مدنية، و(رفع أيدي الكهنة عن الملكية العامة للهياكل)، كما عمل على فصل القضاء عن جمع السلطات، وعمد إلى فصل الدين عن السياسة كأساس الترابط بين القوميات المختلفة في مملكته، يضاف إلى ذلك قوانين حمورابي الذي حكم ما بين العامين (1792-1750) ق.م، كأقدم مجموعةٍ شاملةٍ من النصوص القانونية في الشرق القديم، التي كانت قوانين وضعيةً لا دينيةً تعكس اهتمام حمورابي بفصل الشريعة عن السياسة، وبالتالي هيّ قوانين علمانيةً بهذا المفهوم، كما أن التحجج بأنّ العلمانية استجابةٌ أوربيةٌ لإشكاليات العصور الوسطى ليس دقيقاً لا علاقة لنا بها، فتلك العصور ليست مرحلةً زمنيةً بقدر ماهي حالةٌ ذهنيةٌ وعقليةٌ تستدعي العلمانية أينما وجدت لمواجهتها، فالعلمانية كما كانت ضروريةً للتخلص من عصور الظلام الأوربية هي ضروريةٌ أيضاً للتخلص من الجمود العقليّ والتعصب والكراهية ومكافحة الإرهاب، ولكن، شرط أن تكون جزءً من مشروعٍ عربيٍّ خالصٍ لا ثقافةً وافدةً مترجمة فقط.