قسطنطين باوستروفسكي..!
حسن حميد
يكاد المرء لا يصدق وهو يرى هذا الفيض الكبير من الترجمة للأدب الروسي بين أيدينا منذ ما يزيد عن مئة وخمسين عاماً، ثم يجد، في المنتهى، أن الكثير من الأسماء الروسية في الأدب والفن قد غيّبت، ولم يترجم لها إلا شذرات بسيطة، أو ناحلة فحسب.
أقول هذا لأننا أحببنا الأدب الروسي، ومن خلاله تعرّفنا إلى البلاد الروسية، والبلاد السوفييتية بعد عام 1917 وإلى يومنا الراهن، مثلما تعرّفنا إلى جماليات هذا الأدب، وطباع الناس، وأحوال المجتمع، وما يشيع فيه من عادات وتقاليد، وهذا أمر على غاية من الأهمية، لأن الأدب وسيلة شديدة الغنى للتعريف بشعب من الشعوب، ولذلك سمعنا لينين، الزعيم الروسي، يقول: أنا عرفت التاريخ الفرنسي، وطباع الشخصية الفرنسية، وعادات الشعب الفرنسي وتقاليد أهله من خلال قراءتي لروايات بلزاك، وهذا كلام صحيح جداً، فنحن لكي نعرف البلدان الأخرى، وفي الجغرافيات الأخرى، نمضي إلى الآداب والفنون، فهي خير من يعبّر عن مجتمعاتها.
أقول هذا، وأنا أقرأ لكاتب روسي اسمه قسطنطين باوستروفسكي، ما كنت سمعت به، وهو من مواليد عام 1892، وتوفي عام 1968، أي أنه عاش في زمن القيصرية الروسية حوالي 25 سنة من عمره، وعاش ما تبقى منه في عهود: لينين، وستالين، وخرتشوف، والسنوات الأولى من عهد بريجنيف، وهو كاتب رواية، وقصص قصيرة، ومراسل حربي، وصحفي، وكان مرشّحاً لجائزة نوبل، وكاد يأخذها بعد أن أعدت الأكاديمية السويدية كل شيء للاحتفال بنيله جائزة نوبل عام 1965، بعدما ذاعت شهرته، وعُرفت أهميته من خلال ترجمة أعماله إلى مختلف اللغات الأوروبية، لكن القيادة السوفييتية لم ترض عن ترشيحه لنيل الجائزة، أو قل لم ترض عن إعطائه الجائزة، لذلك، وبضغط كبير منها، رشّحت شولوخوف (1905ـ 1984) ونالها في العام ذاته.
هذا الكاتب قسطنطين باوستروفسكي كاتب مبدع وكبير وذو شأن عال من الناحية الفنية، وقد فازت قصصه القصيرة بجوائز عالمية متقدماً على أسماء عرفناها وأحببناها في الأدب الروسي أمثال: تشيخوف، وتورغنيف، ويوري بوندريف، وتولستوي، وقد لقب هذا الكاتب بتولستوي القرن العشرين، تولستوي الذي رحل عن الدنيا سنة 1910، ولقسطنطين باوستروفسكي روايات، وقصص، ومسرحيات، وقصائد كثيرة، ولكن للأسف لم يعرف الحظوة والمكانة التي يستحقها أدبه في الاتحاد السوفييتي، وفي البلاد العربية، وأنا لا أعرف الأسباب، ولكن سيرته الذاتية تقول ما يوحي إلى أن القيادة السوفييتية آنذاك لم ترض عنه الرضى المطلوب، مع أن العهود الحاكمية تعددت وقسطنطين باوستروفسكي يكتب وينتج وشهرته تتطاول في البلاد الأوروبية بعدما زار بلاداً عدة منها، وحمل إليها كتاباته التي ترجمت فلاقت قبولاً هائلاً من القراء والنقاد في آن معاً، وسيرة الكاتب تشير إلى أنه لم ينضم إلى الحزب الشيوعي السوفييتي، ولم يكتب أي مديح للحكام السوفييت الذين عاش في ظلهم، وأنه أصدر بيانات باسمه دعا في واحد منها إلى رفع الرقابة على الأدب، ودعا في بيان آخر إلى مناصرة سولجينتسين الذي منح نوبل فثارت حوله الأقاويل، ودعا في بيانات أخرى إلى إعادة النظر في الأحكام التي صدرت ضد بعض الأدباء الروس أمثال: (سينيافسكي)، و(يو دانييل)، وتحدث عن أهميتهما الأدبية مادحاً، وهذان الكاتبان لا أحد يعرف عنهما إلا القليل القليل.
تزوج قسطنطين باوستروفسكي ثلاث مرات، وكتب قصصاً للأطفال تعدّ من أهم ما تشتمل عليه المدارس الروسية من أدب الطفل اليوم، وله شقيقان قضيا في الحرب العالمية الأولى، وترك وراءه أدباً خضيلاً له بهجة وظلال ومعان وأسرار لا تعرفها سوى الغابات!.. ولعلي في وقفة أخرى أتحدث عن بعض أدبه الثمين.
Hasanhamid55@yahoo.com