الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

بتردد وتلعثم وارتباك!؟

د. نهلة عيسى

لا شيء جديد هذا الصباح، وحشة العام الماضي مضاف إليها وحشة هذا العام، والهرولة المعتادة من الفرشة إلى الورشة، فنجان قهوتي الصباحية البارد، وعشرات الطلاب يعاتبونني على العلامة لا على العلم، واجترار المجتر من الأحاديث والوجوه، حيث كل كلمة أسمعها، تذكرني أنها ذات الكلمة منذ ألف عام، وذات الوجه منذ تورط آدم بمغادرة السماء، وعشرات المرات أمد يدي إلى الهاتف، لأروي لأبي تفاصيل الملل، واتكئ على صدر صوته هرباً، ثم أتذكر أنه قد رحل!؟.

لا شًيء جديد هذا الصباح، فالجدران هي الجدران، والشوارع لم تغادر أسماؤها، والأحياء ما تزال في ذات المدن، والكآبة سحابة تهيمن على سمائنا، ونحن هنا نمارس دور الحراس على موت الزمن، ليس حباً باليوم، ولكن خوفاً من القادم غداً، وتجنباً للاحتكاك مع مشاعرنا، مع توقعاتنا المحقة، ومع تلعثمنا وترددنا وارتباكنا في نطق الكلمات التي نود أن نقولها، ولا نجرؤ على قولها، لأن قولها يعني: أن نكتشف كم أيامنا مهينة، وكم نحن نشبه أيامنا!؟.

لا شيء جديد هذا الصباح، فما زلت مؤمنة بأن الاكتشاف أهم من الاختراع، ولذلك أحاول الغوص فيما مضى، علني أحصل على شيء غير متوقع، أو غير منتظر، ربما بقايا صور عن الشارع الصغير الذي كان ستراً وغطاءً على حبي الأول، رغم أن الشارع احترق، والحب الأول، كان من أوائل الشهداء، والصور عن ذاك الزمان، ضاعت في زحمة الهرولة بين عزاء وعزاء، وجريح ومعاق، وجندي تطبطب على كتفه، وتتمنى لو ترتمي في حضنه معتذراً، عمن جعلوا السلاح حبيبته لعشر سنوات، ورغم أن طوابير “الحد الأدنى من العيش” باتت مانع ذاكرة، لأن لا أحد قادر وهو واقف في الطابور على الحلم بالقمر!؟.

لا شيء جديد هذا الصباح، فما زلت أعاقب ذاتي بملاحقة الصور التلفزيونية السريعة، وهي تنقل تباهي المطبعين بإعلانهم علاقة “الحب من طرف واحد” مع إسرائيل!، محاولة اكتشاف ساحة الجريمة، ساحة الصمت، وعدد الشهداء والجرحى، وعرائش الياسمين التي احترقت، والأشجار التي تعرت، والفراشات التي تحنطت بفعل النار، وفعل الغدر، وفعل أحزاننا التي ملأت البحر، ولا عزاء للبحر، سوى أني طوال اليوم أناجي الرب: قلبي بات رصيفاً، لم تبق قدم حزن في العالم كله، لم تطأه.. فهل من نهاية؟!.

لا شيء جديد هذا الصباح، نحن في الساعة الخمسين بعد المليون من جرح الوطن، ورصيف الصبر يضيق بنا، ننتظر اللاشيء على ضوء شمعة، ببرود يشبه الخيبة، ولم يبق في الوطن جذر أخضر، يمكن أن يورق من جديد!، والسماء مسكونة بالغصات والترهات والبشاعات والتجاوزات والمذلات، وبالمتبارين في عنف بارد المشاعر، على تخاطف أشلاء صبر الناس، واعتبار ذلهم مجرد أمن وقائي، أو مباراة في الصمود، لن يقف الفائز فيها على منصة تتويج!؟.

لا شيء جديد هذا الصباح، فأنا مثل الجميع، أعبر كل يوم بوابات القهر، التي تتلقف الواحد منا، وكأنه حقيبة سفر في مطار صحراوي لا تحط فيه سوى طائرات الأفيون والهيروين، ولا يرتاده سوى قطاع الطرق ومهربي الحشيش والكيف، لتتقاذفه المهانات وتحاصره الأتاوات، ويعبر فوق عذاباته وبقايا كرامته الرثة، القاصي والداني، ومدّعو الدفاع عن الشعب “العنيد”، وأنا أيضاً مثل الجميع أخجل من أنني أتلعثم في الكلام، لأن ما في داخلي يفوق قدرتي على الكلام!؟.

لا شيء جديد هذا الصباح، سوى أنني مثل كل صباح، أوهم نفسي أن هذا صباح جديد، فأرتدي ملابس جديدة، وأنتقي ابتسامة جديدة، وأدعي أني بخير، وأن كل الأمور في أماكنها الصحيحة، وأن وجودي في الحياة مهم، وأن الحياة تهم، وأن أمي على شرفة بيتنا تبسمل بالدعاء لي، وأن أبي على عادته بانتظار هاتفي الليلي، وأني فقط إن تجنبت الغضب سأعبر إلى الغد بدون تردد ولا تعثر ولا تأتأة!؟.