“فالنتين جافت” والسينما المغيبة عربياً
لم يشكل رحيل الفنان الروسي المعروف بـ”فنان الشعب” فالنتين جافت، أي حدث بالنسبة لأغلب محطات التلفزة العربية المتخصصة بالفن والمنوعات على غير عادتها عند رحيل فنان غربي من الدرجة الثالثة مثلاً. وبغض النظر عن مسيرة هذا الفنان الحافلة بالعطاء الدرامي المسرحي والسينمائي والتلفزيوني فإن انحياز معظم المحطات الفضائية العربية ذات التمويل الخليجي إلى الغرب فنياً، يؤكد حقيقة التبعية غير البريئة، سياسياً، من مرامي الحرب الباردة التي تخوضها الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة لتهميش كل من يغرد خارج سرب سياستها وثقافتها الموجهة. ولهذا نجد أن السينما الروسية ليست وحدها من تغيّب عن تلك الشاشات، بل أيضاً كل تصنيفات السينما الرزينة والجادة التي تحترم عقل المشاهد، وتحرص على تنمية وعيه الثقافي والاجتماعي والتاريخي بطريقة موضوعية تساير مداركه العقلية والاجتماعية حتى الأوروبية منها.
إن حقيقة احتكار رأس المال الخليجي للإعلام الفضائي ساهم بشكل مباشر ومدروس في تشويه الثقافة العربية وتسطيح فهم الأجيال للحياة والمستقبل من خلال تكريس أفلام تلعب على وتر اللامنطق والخيال اللامعقول واللاإنساني كما نرى في مجموعة أفلام مصاصي الدماء والزومبي، وحرب النجوم إلى جانب أفلام الرجل الأمريكي الخارق المنقذ للبشرية من مخططات الشر التي تسعى لتنفيذها منظمات أغلبها إمَّا عربية أو روسية، أو إسلامية بالعموم. حتى أننا لا نجد للسينما الفرنسية والأوروبية، الغربية والشرقية، الواقعية أي حيز في تلك المحطات، ففي فترة ما قبل الحرب في سورية كان للمركز الثقافي الفرنسي بدمشق نشاطاً سينمائياً متميزاً يستقطب إليه جمهوراً لا بأس به من محبي هذا النوع من السينما المفعمة بالواقعية والرومانسية والبعيدة كل البعد عن سينما التوحش والتخريب، تلك العروض التي كانت تقدم أسبوعياً كان لها أثر كبير في نفوس المشاهدين بقصصها الإنسانية التاريخية والراهنة التي تعالج مشاكل الإنسان الاجتماعية والنفسية بأسلوب جمالي راقٍ يلتقي مع أنماط التفكير المختلفة، ليؤكد ذلك أهمية التجربة السينمائية الفرنسية المغيبة أيضاً، كما هو الحال بالنسبة للسينما الإيرانية حيث كان للمستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق حضورها السينمائي وفضلها الكبير في تعريفنا بتحف فنية فرضت نفسها بقوة في الكثير من المهرجانات العالمية، وتمكنت من اختطاف جوائز هامة رغماً عن أنف حملات البروباغندا الأمريكية والغربية الدؤوبة على شيطنة السياسة الإيرانية في العالم بما ينعكس سلباً على جماهيرية صناعة السينما الجادة والمتزنة.
وإذا تجاوزنا هاتين التجربتين الهامتين وانتقلنا إلى السينما السورية والمغاربية المهمة كحالة فنية تسير بخطوات حثيثة لإثبات وجودها بخصوصيتها المحلية، والجديرة بالمشاهدة والأخذ بيدها نحو الانتشار العربي بدلاً من ترك حبل المال الغربي يشدها نحو مآرب غير بريئة تحرفها عن الاهتمام بقضايا شعوبها، لاسيما بالنسبة للسينما المغربية ذات التوجه الغربي والفرنسي تحديداً.
الشيء اللافت أن المنافس الحقيقي للحضور السينمائي الأمريكي في التلفزة العربية هي السينما، والدراما التلفزيونية الهندية، التي تتقارب إلى حد ما مع نظيرتها الأمريكية من حيث تسطيح العقل والاستخفاف بالفكر، والاشتغال على المبالغة في إثارة العواطف والغرائز معاً على حساب الاجتهاد في إعادة تدوير الكثير من القضايا الاجتماعية والثقافية الهامة التي تقض مضاجع الكثير من المجتمعات، رغم وجود بعض الاستثناءات التي رأينا كيف خطفت الأضواء في مهرجانات عديدة بقصصها المشوقة وأسلوبها الدرامي الراقي، وعلى هذا النهج تسير الدراما التركية التي بدأت تشق طريقها بدعم مالي كبير نحو المشاهد العربي المستباح فكرياً وعقائدياً وثقافياً.
وبالعودة إلى السينما الروسية التي كان جفت أحد أبرز نجومها فقد ظلت أسيرة محليتها، وعاجزة عن كسر حواجز البروباغندا الأمريكية والانطلاق نحو العالمية، للأسباب التي ذكرنا بعضها سابقاً ونعزو بعضها الآخر إلى الانكفاء الروسي بعيداً عن الفضاءات الدولية والاستسلام للحالة الراهنة وقوة الحضور السينمائي الأمريكي في العالم، ولهذا لا نستغرب أن الذين سمعوا بهذا الفنان الذي رحل عن 86 عاماً هم قلة قليلة جداً، حتى في بلادنا التي تربطها علاقات تاريخية قديمة مع هذا البلد، وكان لمركزها الثقافي نشاطاً مهماً في سنوات ما قبل الحرب، لكن، رغم ذلك، تبقى الصورة التلفزيونية التي تقتحم جدران منازلنا عنوة، هي الأقوى والأشد تأثيراً من كل المراكز الثقافية، ولهذا ظلت السينما الفرنسية بالنسبة للمتلقي العربي حبيسة المراكز الثقافية وكذلك الروسية والسورية وغيرها من فنون يتطلب انتشارها وسائل إعلامية تفرضها على المتلقي في غرفة نومه وطعامه.
من هذا المنطلق لا نجد في مرور رحيل فنان كبير عبر بعض وسائل الإعلام مروراً عابراً، لا يقيم وزناً لتاريخه المهني والإبداعي الحافل.
ولد جيف عام 1935 لعائلة تسكن في غرفة واحدة بمدينة موسكو، قتل والده في الحرب العالمية الثانية، تولد حبه للمسرح وهو في الصف الرابع عندما شاهد مسرحية للأطفال بعنوان “مهمة صعبة” الأمر الذي دفعه للمشاركة في عروض مسرح الهواة وكان يؤدي دائماً فيها دوراً نسائياً لعدم وجود فتيات في مدرسته.
لم تكن لديه جرأة مصارحة أحد برغبته أن يصبح ممثلاً، إلى أن قرر الالتحاق بمدرسة موسكو للفنون المسرحية، حيث تجاوز اختبار القبول بدرجة ممتاز. كان حلمه، مثل معظم طلاب تلك المدرسة، أن يقتحم عالم السينما بسرعة، وأول دور حصل عليه كان دوراً شبه صامت في فيلم “القتل في الشارع” عام 1956، وحصل على دور صغير في فيلم “الشاعر” في العام ذاته.
بعد تخرجه من مدرسة المسرح لم يجد وظيفة ثابتة تساعده على التأسيس لحياة منتظمة، لذلك تنقل بين المسارح الصغيرة، إلى أن استقر به الحال في مسرح لينين كومسومول عام 1964، وهي فترة مهمة في حياته الفنية قدم فيها مجموعة من كلاسيكيات المسرح، وهي المرحلة التي صقلت موهبته، وكان من أبرزها دوره في مسرحية “زواج منجارو”، رغم كل ذلك كانت السينما غايته الأولى ليقدم في نهاية السبعينيات مجموعة من الأدوار الهامة، لاسيما مع المخرج إلدار ريازانوف مثل أفلام “المرآب”، “الأب القائد”، “زعيم المتشردين” “قل كلمة عن الحصار” وغيرها.
شهد مطلع القرن الحالي عطاء متميزاً له خاصة في أفلام “استديو 71، وبيت العائلة، وأحرقت الشمس، وغيرها. كما كان له تجربة مهمة في الدراما التلفزيونية، وتقديم البرامج، والكتابة في مجالات الفن والأدب منها كتاب “اتعلم تدريجياً” جنة الذكريات “الظلال على السماء” “الحياة مسرح” “أضواء حمراء” و”قصائد” وغيرها. كما حصد العديد من الجوائز الهامة في المسرح والسينما منها “وسام من أجل الجدارة” وجائزة النسر الذهبي لأفضل ممثل عن دوره في فيلم 12 وغيرها الكثير.
آصف ابراهيم