مجلة البعث الأسبوعية

خريطة ضائعة بين تقاذف المسؤوليات.. رياضتنا تحتاج إلى التخصص والتخصيص للوصول إلى مستويات نوعية!!

“البعث الأسبوعية” ــ ناصر النجار

قبل أكثر من ثلاثين عاماً، صدر ما يسمى قرار تخصيص الأندية السورية بألعاب رياضية معينة بغاية وضع خريطة متكاملة للألعاب الرياضية، بحيث تكون موجودة في كل المناطق، عبر توزيع جغرافي يضمن الانتشار ويحقق الفائدة ويحافظ على الوجود الفاعل لكل الألعاب، على أن تواكبها خطة الإقلاع بها جميعاً، وصولاً إلى البقاء على سدة المنافسة، في الأجواء العربية على الأقل.

وكلنا عرف، أو سمع، أو قرأ، أن الرياضة السورية كانت متوهجة في ذاك الزمن، وأن كرة السلة كانت في المقدمة عربياً، ومثلها ألعاب القوة (الملاكمة والمصارعة والجودو ورفع الأثقال)، وكنا من أذكياء العرب، ولأبطالنا المراكز الرفيعة في الشطرنج، ولقب “أستاذ دولي” حاز عليه الكثير من اللاعبين، وغير ذلك من الألعاب التي كانت تتفوق بنسب معينة، كالدراجات وألعاب القوى والسباحة وغيرها.

وبالفعل، أصدر المكتب التنفيذي للاتحاد الرياضي العام أوامره إلى فروعه بالمحافظات لدراسة الأمر مع أنديته، للوصول إلى آلية عمل للتنفيذ،؛ وتم وضع بعض الشروط في التخصيص، منها وجود صالة أو ملعب وجهاز فني للألعاب الرياضية الممارسة؛ وبدأت الاجتماعات وطالت وفي كل مرة ينتهي الاجتماع إلى اللاشيء، ثم تعاد هذه الاجتماعات مرة أخرى، وتبدأ الدراسات من جديد، وتتقاذف الأندية الألعاب الرياضية هرباً من مسؤوليتها؛ وتستمر هذه الاجتماعات بما يتخللها من مراسلات وتأجيلات واعتراضات ومداولات، ثم تهرُّب، حتى ترفع الجلسة إلى أجل غير مسمى، وتقيد القضية ضد مجهول.. وبتنا نندم على ذلك الزمن بعد أن أصبحت كل ألعابنا الرياضية في الحضيض.

 

النتيجة المتاحة

لم يتوصل المعنيون إلى أي قرار استراتيجي يخدم الرياضة في الأندية والاتحادات، وتلاشى الموضوع مع مرور الوقت، وبعض اللجان التنفيذية وزعت الألعاب الرياضية على أنديتها شكلاً لكن دون أي مضمون.

وفي هذا التوزيع، تدخلت الأندية الكبيرة فضمت من الألعاب ما تريد، والأندية الفقيرة رضيت بما قُسم لها، وتعاملت كل الأندية – كبيرها وصغيرها – مع الألعاب من باب تأدية الواجب، وحسب الإمكانيات المتاحة، لذلك لم يستطع أحد أن يحاسب أحداً ما دام شعار رياضتنا (الإمكانيات المتاحة).

والنتيجة أن الكثير من الألعاب الرياضية تلاشى، فلم نعد نسمع بكرة اليد أو الكرة الطائرة أو البلياردو أو الجمباز، أو الكثير من ألعاب القوة، وباتت هذه الألعاب محصورة بأندية قليلة على خارطة الرياضة السورية؛ وزاد الأمر سوءاً الأزمة ومفرزاتها، فكانت مبرراً لكل تقصير وإهمال، لذلك صار لزاماً على القائمين على الرياضة أن يعيدوا بناء الألعاب الرياضية من الأساس، ولن يكون البناء صالحاً إن لم نعتمد التخصيص والتخصص كمبدأ رئيس في عملية تطوير رياضتنا.

 

استثمار رياضي

مع عدم الاهتمام بالألعاب الرياضية في الأندية هرب اللاعبون إلى البيوتات الرياضية، وعندما بحث المدربون عن مصدر رزقهم تحولت هذه الألعاب فعلياً إلى البيوت، وشكلياً إلى الأندية، فعندما يشارك أي ناد بلعبة قوة يسحب لاعبين منها يشاركون في البطولات باسم النادي. وهكذا، شاركت أنديتنا في بطولات الملاكمة والمصارعة والجودو والكاراتيه ورفع الأثقال، وتخللت هذه المرحلة أمور غير مرضية على الإطلاق، أهمها أن ولاء اللاعب صار للمدرب، وليس للنادي، والمدرب صار يتحكم بالأندية. وعلى سبيل المثال، حدث أن أحد المدربين متعاقد مع ثلاثة أندية، لذلك وزع لاعبيه على هذه الأندية حسب الدفع والدعم، فالنادي الذي يدفع أكثر يأخذ لاعبي النخب الأول..!

وفي إحدى بطولات الكاراتيه للأندية، وبعد جهد جهيد قام به رئيس اتحاد اللعبة، لم يشارك في بطولة مركزية أكثر من عشرة أندية، وإذا علمنا أن عدد أندية سورية يفوق الخمسمائة ناد، فإننا ندرك تماماً حجم الكارثة التي تمر بها؛ وللأسف، تحولت هذه الألعاب المهمة إلى ما يسمى الاستثمار الرياضي، لكن هذا الاستثمار لا يعود بالفائدة على الرياضة أو الأندية، إنما الفائدة محصورة بجيوب المنتفعين.

والمفارقة العجيبة أن كل الأندية لديها صالات بلياردو وسنوكر، وأكثر من تسعين بالمائة من هذه الأندية لا تملك لاعباً واحداً في هذه اللعبة. وهذه الصالات كلها مؤجرة للمستثمرين يحصلون من خلالها على الربح الوفير، وأنديتنا لم تطل “عنب الشام ولا بلح اليمن”، أي لم تبن اللعبة، ولم تؤسس لها، ولم تستفد مالياً من هذا الاستثمار كما يجب، وإذا أقيمت بطولة لهذه اللعبة تجد بعض الأندية تبحث في هذه الصالات عن لاعب يمثلها من باب رفع العتب.

 

غول كرة القدم

إذا فتحنا خارطة الرياضة السورية وجدنا أن كرة القدم قد سيطرت على مساحاتها كلها، وهذه السيطرة غير مفيدة ولا تخدم كرة القدم لأنها تذهب بإمكانيات الأندية أدراج الرياح. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نلحظ منطقة بمساحة لا تتجاوز الخمسة كيلومترات تضم ثمانية أندية كروية هي: معضمية الشام – داريا – جديدة عرطوز – عرطوز – صحنايا – أشرفية صحنايا – الكسوة – حرجلة؛ فأي توزيع منطقي مفيد؟!! وأي إستراتيجية تقوم عليها هذه الأندية التي ترزح بالدرجات الأولى والثانية والثالثة، ووحده فريق حرجلة بالدرجة الممتازة؟! وإذا دخلنا أعماق هذه الأندية فإننا نجد العجب العجاب: أولاً، أنها لم تقدم للكرة السورية أي لاعب خلال ثلاثة عقود باستثناءات بسيطة لا يمكننا ذكرها، وثانياً أن هذه الأندية تستقطب لاعبين من خارج منطقتها – كما يجري في معضمية الشام – ومن خارج المحافظة – كما يجري في نادي الحرجلة – والمحصلة أنها تدفع نفقات هي بغنى عنها، ودون أي جدوى فنية أو فائدة مالية.

ولو أن هذه الأموال صرفت على ألعاب غير كرة القدم فقد تكون الحصيلة أفيد للرياضة، ولهذه الألعاب التي اندثرت تماماً. والأمر لا ينحصر في هذه البقعة وحدها، فهي معمعة في كل المناطق، وإذا دخلنا الغوطة الشرقية لوجدنا أمثلة مشابهة، ففي كل متر هناك فريق لكرة القدم وصولاً إلى النشابية، والغريب أن اللجنة التنفيذية بريف دمشق تفتخر أن لديها أكثر من ثلاثين فريقاً كروياً في الدرجتين الأولى والثانية.. عدا الدرجة الثالثة.

والمقصود من هذه الأمثلة أن يتم توزيع كرة القدم بشكل عادل، فليس المهم الكم من الأندية إنما يهمنا الفائدة المرجوة منها، فأن تفرض اللجنة التنفيذية على أنديتها تبني ألعاب رياضية معينة أفضل بكثير من أن تلتصق كلها بكرة القدم:

أولاً، توزيع كرة القدم حسب المناطق الجغرافية يدعم الأندية ويوظف الإمكانيات البشرية لخدمتها، فوجود ثلاثة فرق فقط في المنطقة التي ذكرناها بالريف الجنوبي أفيد لكرة القدم وللأندية على حد سواء.

ثانياً، الإمكانيات الفنية والبشرية سنوظفها في ثلاثة أندية بدلاً من ثمانية.

ثالثاً، سيكون توظيف المال منطقياً ومحصوراً بثلاثة أندية فقط، وإذا نشطت إدارات هذه الأندية – كنادي حرجلة – فإنها ستستقطب الشركات الراعية والفعاليات التجارية والاقتصادية إليها.

وإذا قررنا مثلاً أن تكون كرة القدم في أندية معضمية الشام والكسوة والحرجلة، فإن بقية الأندية يمكن توجيهها لاستقطاب ألعاب أخرى ككرة السلة، كما يمكن فرض العديد من الألعاب الفردية وألعاب القوة عليها. والمهم أن يكون هناك توزيع منطقي للرياضة في مناطق الريف لتنشط الألعاب التي غابت وصارت خارج اهتمام الرياضة، وإذا استطعنا وضع جدول للرياضة في ريف دمشق، ونجح، فإن تعميم ذلك على بقية المحافظات سيكون مثالياً.

هناك ملاحظات نود ذكرها أن اتحاد كرة القدم يوافق على انتساب أي ناد إلى صفوفه دون الأخذ بعين الاعتبار توافر الشروط والإمكانيات، وكأن الغاية أن نتسابق للحصول على أكبر عدد من الأندية، فيما المفترض أن نضع شروطاً للانتساب، أهمها توفر ملعب وإمكانيات مالية لمزاولة لعبة كرة القدم.

 

حبر على ورق

عدد الأندية في سورية كبير جداً، ويفوق في كل محافظة الثلاثين نادياً، باستثناء دمشق، لكن أغلب هذه الأندية حبر على ورق، حتى أن بعضها لا يوجد فيه أي رياضة عملياً. ففي طرطوس، مثلاً، هناك أكثر من ثلاثين نادياً، لكن المشهور فيها فريق الساحل، ولديه لعبتان فقط: كرة السلة وكرة القدم، وباقي الألعاب غائبة تماماً بحجة عدم وجود منشآت وإمكانيات.. إذاً ماذا يعني وجودها وتسميتها؟!

أحد الخبثاء قال: إن وجود هذا العدد الضخم من الأندية يفيد في الأصوات الانتخابية، إضافة إلى فوائد ومنافع شخصية لمن يقوم على هذه الأندية، وهذا ليس محصوراً فقط في طرطوس، بل ينطبق على باقي المحافظات.

ولو وزعنا الألعاب الرياضية على هذه الأندية، لوجدنا فوائد عديدة تساهم في بناء الرياضة الوطنية، فعلينا تعزيز كرة اليد في نادي دريكيش المختص بهذه اللعبة، وتعزيز الكرة الطائرة بنادي السودا، ودعم الألعاب الأخرى بباقي الأندية، وخصوصاً ألعاب القوة والألعاب الفردية، لكن السؤال المهم: إذا كانت طرطوس واللاذقية شاطئاً واسعاً فأين السباحون؟ ولماذا لا نجد أبطال السباحة في هاتين المحافظتين؟

 

التخصص الرياضي

التخصص في الألعاب ضرورة تفرضها المرحلة اللاحقة إن أردنا إعادة البناء الرياضي السليم لرياضتنا. ونجد في تجربة نادي الثورة خير معين، فهناك أندية اختصت بالسلة، وأبدعت فيها كالجلاء والعروبة في حلب، وهناك أندية اختصت بالكرة الطائرة كصلخد والسودا والسقيلبية، ويجب أن تدعم وتستمر وألا تحمل لعبة أخرى، وكذلك الأندية التي تفوقت في كرة اليد وألعاب القوة أو رفع الأثقال كنادي سلحب مثلاً.

لدينا أكثر من خمسمئة ناد، ونحن قادرون على أن يكون لدينا تخصص في هذه الأندية، فإذا جعلنا أندية مختصة بألعاب القوى وحدها، وأندية مختصة بألعاب القوة وحدها، فإن هذه الألعاب ستعود إلى ألقها، وسنستعيد مكانتنا الرياضية على الصعيد العربي على أقل تقدير.

التجربة خير برهان، فرياضتنا لم تدخل قائمة الألعاب الأولمبية إلا من خلال ألعاب القوى وألعاب القوة، بينما كرة القدم لم نحصل منها على أي إنجاز حتى الآن، فهل سنبقى ندعم كرة القدم ونضع لها كل إمكانياتنا ونترك بقية الألعاب في مهب الريح؟

 

نجاح دائم

رياضة الفروسية بقيت مزدهرة على الدوام وتحقق الإنجازات المستمرة في كل مشاركاتها العربية والقارية والدولية، ولديها قواعد واعدة ومواهب متميزة، والسبب أن لديها أندية اختصاصية. وإن سألنا عن الرماية وأنديتها نجد أن مصيرها مجهول وأسباب ذلك متعددة.

لذلك نجد أن التخصص وحده لا يكفي، ويلزمه تطبيق الاحتراف في العديد من الألعاب قبل أن يشمل الاحتراف جميع رياضتنا.. فالاحتراف بات ضرورياً، ولتكن الرياضة مصدر رزق لكل الرياضيين، وبذلك نقضي على هجرة أبطالنا. وعلى سبيل المثال، يعجُّ أحد المنتخبات الخليجية بلاعبينا بكرة اليد، فانتعشت اللعبة بجهود لاعبينا وخبراء اللعبة على حساب تراجعها عندنا.

والرياضي في رياضة رفع الأثقال – مثلاً – يحتاج إلى غذاء معين وتجهيزات، وما يسد رمقه ورمق عائلته، ولن يستطيع لاعب رفع الأثقال أن يصل إلى منصات التتويج وهو يبحث عن ربطة الخبز!

 

كيف نحصل على البطل الأولمبي؟

الكلام هنا سهل والتنظير أسهل، ولكن الواقع صعب والتطبيق أصعب، وبإمكاننا أن نجعل الصعب سهلاً إن وفرنا “الإمكانيات الضرورية”، وليس “الإمكانيات المتاحة”، من أجل بناء رياضة متطورة وصناعة بطل أولمبي.

ما يصل إلينا أن أندية تشرين وحطين والوحدة والاتحاد والكرامة والوثبة قاربت صرفياتها على فرقها بالدوري الممتاز لكرة القدم، الموسم الماضي، مبالغ كبيرة تراوحت بين سبعمائة مليون إلى مليار ليرة، وهذا الموسم تسير هذه الأندية على هذا المنوال، ولنا أن نتصور لو أن هذه المبالغ أنفقت على مواهب بالجمباز والملاكمة والمصارعة والجودو ورفع الأثقال والكاراتيه وغيرها.. ماذا كانت أنديتنا ورياضتنا ستجني؟

نحن هنا لسنا ضد كرة القدم، ولسنا ضد تطورها أو بنائها بالشكل الصحيح، إنما نود أن يكون هناك توزيع عادل لهذه الصرفيات، ولو أن ربع هذه المبالغ خصص لبقية الألعاب لوجدنا تطوراً نوعياً فيها. واليوم علينا أن نتساءل: ماذا استفدنا من وجود المدن الرياضية العملاقة؟ وهل وظفت بالطريقة الصحيحة؟

وسؤال أخر: أندية المجد – النضال – بردى – قاسيون – الوحدة – الفيحاء تملك منشآت، وإن كانت متفاوتة المساحة والعمران، وفيها استثمارات كبيرة.. ماذا استفادت رياضتنا فعلياً من هذه المنشآت واستثماراتها؟ وهل كان بالإمكان أحسن مما كان؟