صناعة الثقافة (2)
د. نضال الصالح
شأن أي سيرورة تواصلية، ينهض الفعل الثقافي على ثلاثة حوامل: المرسل، والرسالة، والمرسل إليه، أي صانع الفعل، والفعل، ومستقبل الفعل أو متلقيه، وحسب رومان جاكوبسون فإن الرسالة لكي تكون فاعلة تقتضي سياقاً تحيل عليه، وقابلاً لأن يدركه المرسل إليه، كما تقتضي سَنَناً مشتركاً، كلياً أو جزئياً، بين المرسل والمرسل إليه، وثالثاً قناة فيزيقية وربطاً نفسياً بين المرسل والمرسل إليه.
باستعادة الخطاطة السابقة فإن صانع الفعل الثقافي هو المرسل، والفعل هو الرسالة، والجمهور هو المرسَل إليه، ووفقها، أي الخطاطة نفسها، فإن الفعل الثقافي لكي يكون فاعلاً فإنه يقتضي سياقاً يحيل عليه، والسياق، في هذه الحال، يعني وضع الفعل في الزمان والمكان المناسبين، واختيار الوسائل والأدوات الممكنة لمتلقيه من استقباله على النحو الأمثل، ويعني السنَن المشترك أن ثمة عقداً غير مباشر بين صانع الفعل ومن يستهدفه هذا الفعل، أما القناة فإنها تعني طهارة أدوات الفعل الثقافي من أي من الشوائب والعلل والأمراض التي تعوق نقل الرسالة كما تعنيه الأخيرة بحق، وأما الربط النفسي، فيعني أن ثمة حاجات مشتركة بين فاعل الفعل ومفعوله.
في غير قليل من الأداء الثقافي، تبدو الخطاطة المشار إليها آنفاً معطوبة على غير مستوى، صانع الفعل الثقافي أحياناً، والفعل نفسه أحياناً ثانية، والمستهدَف من الفعل أحياناً ثالثة، وهذه الحوامل جميعاً أحياناً رابعة، وإلى الحد الذي تبدو أطروحة الراحل جورج طرابيشي معه، في كتابه: “من النهضة إلى الردّة، تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة”، (دار الساقي، بيروت 2000)، هي الحقيقة بمطلق قسوتها ووطأتها في الواقع العربي، أي قوله: إن ثمة ما يمكن وصفه بالطلاق المزمن بين الفكر والواقع في العالم العربي.
وما من ريب في أن من مرجعيات ذلك ما يمكن وصفه أيضاً بالطلاق المزمن بين غير قليل من صناع الثقافة والثقافة نفسها، فغير قليل من هؤلاء أميون، بل جهلة أحياناً، بما تعنيه الثقافة، ولذلك، وللتغطية على أميتهم، يوسعون المنابر صفعاً بما يتوهمون أنها أفعال ثقافية، بينما هي في الحقيقة والواقع أفعال منبرية بحتة، لا يتجاوز أثرها حدود الزمان والمكان اللذين تنتميان إليه، ومن بهي أمثال العرب في هذا المجال: “ليس كل أبيض طحيناً”، وفي “الحيوان” للجاحظ: “ليس كل ما طار بجناحين فهو من الطير”، وفي “أسرار البلاغة” للجرجاني: “ليس كل تشبيه تمثيلاً، وليس كل مجاز استعارة”.
الثقافة رسالة وليست وظيفة، ولأنها كذلك فهي تستوجب وجود مرسل جدير بوصفه مثقفاً، وهذا الأخير، أي المثقف، لا يمكن له أن يكون كذلك إلا إذا كانت له من الصفات ما يتصل بغير نسب إلى قيم “الرسل” ومبادئهم، وإن لم يكن، فهو ألصق بصفة “البائع” الذي لا يعنيه من أمر سلعته سوى ما يثمّر رصيده منها، لا أمر مطابقتها للمواصفات القياسية، ولا أمر تاريخ صلاحيتها، ولا أمر مشتريها حتى لو انتهت به إلى جسد حي ميت بآن.
وبعد، وقبل، فلقد قيل: فاقد الشيء لا يعطيه.