بين الشّاعر والفيلسوف مسافة تدعى الحلم
لا يملّ الناس من التذكير بنصيحة الفنّان الإيطالي المشهور “ليوناردو دافنشي” صاحب اللّوحة الغامضة الوضوح “الموناليزا”، للفنّانين فاقدي الإلهام، أثناء مواجهتهم للطبيعة، بأن يتأمّلوا شقّاً في جدارٍ قديم. ففي تلك الخطوط التي رسمها الزمان على تلك الجدران توجد خارطة الكون وشيفرة الوجود، وما عليك إلّا التأمل في متاهتها لتصل إلى عوالمك المرتجاة. هذا كلام الشاعر الحالم والفيلسوف الظّاهراتي أيضاً الذي يقلّب ألبوم الوجود بهدوء، مستحضراً مواطن الألفة المفتقدة. من منّا لم يرَ عشبةً الخلودـ مجازاًـ وهي ترفرفُ بأوراقها الرشيقة الناعمة، وتشمخ هازئة بالرّيح في تجويف صخرة. متحدّية جلجامش الأسطورة، أن يتسلّق ظلّه، ليقطفها، ولكن هيهات!. وإذا وُجِدَ من لم يرَها. ندعوه لأن يسمعها ملحّنة بأنامل الموسيقار “مارسيل خليفة” المبدعة. وهي تعيد بجملها الموسيقيّة الثرّة، صياغة كلمات الشاعر محمود درويش العالية الجمال، مضيفة لها نكهة خلقٍ جديدة. تقول الأغنية: “كما ينبتُ العشب بين مفاصل صخرة وجدنا غريبين معاً”. من منّا لم يرَ خطوطاً على سقف بيته، الخشبي أو الإسمنتي، وفي تشكيلات الطبيعة النباتيّة الغريبة، وفي خطوط منحنيات وتشكيلات وثنيات هضابها الجغرافيّة. ألا يبدو وكأنّ هناك قارة جديدة تغرينا بالاكتشاف. الشاعر يعي ذلك ويعيشه بلا فلسفة تُذكر، وبعيداً عن قوانين الهندسة. يعيه ويعيشه بقوّة الحلم. أو إذا شئت بقوّة الوهم. أما الفيلسوف المتكلّم بلسان المنطق والموضوعية فسيعتبر ذلك محض تهيّؤات صبيانيّة وأقرب إلى الهراء. الشاعر قادر على تخيّل كلّ هذا الوهم الجميل لظاهراتيّة الأشياء، ولا يريد برهاناً على شيء بل هي تغريه بالسّير قدماً، نحو عوالمه الخاصّة الداخلية ليجد ركناً ما، أشبه بذاك الشّق في الجدار أو السقف القديم، الذي يمثل لديه الحدّ الفاصل بين الوجود والعدم، ليقيم في ذاك الركن بأريحيّة وهناءة مستمتعاً بمراقبة هذا العالم المشروخ بتجلّياته المختلفة. يقول شاعر تراءى له الخطّ المنحني أشبه بدعوةٍ دافئة أمسكت به وقادته للسير في دهاليزها ليغور في أغطيته الداخليّة: (أتابع خطّ الشّرخ الذي يلاحق خطّ السقف) ولكي يخرج من نفقه الذهني هذا، أو قل سجنه الموشّى بالضّباب، وقد توحّد مع رؤيته، ليغدو هو ذاته المكان الآخر الذي يتخيّله، لابدّ من قوّة طاردة تلقي به مجدّداً إلى الخارج. يقول الشاعر: (ولكن بوق عربة أخرجني من الزّاوية..) هذا الطّرد لابدّ له ليعرف أنه ما زال ضمن العالم الواقعي.
يقول شاعر آخر يتأمّل في خطوط وألوان لوحة: (أصبحت الآن لوحة زينة، لفائف بردى عاطفيّة، زنبركاً ساكناً، سطحاً منظّماً، مرسوماً بالأبيض والأسود، ورغم هذا سمعتُ نفسي أتنفّس، هل هي حقّاً لوحة، هل هي حقّاً أنا؟).
هذا منطق الشعراء، لا أحد يستطيع محاسبتهم عليه، ولا من يتجرّأ على التشكيك أو نقض هذه التّهيّؤات؟. العقل الناقد يقف حائراً أمام ذلك ويحيله إلى عبارة ضبابيّة، ولله في خلقه شؤون، إذن هي معطى شعريّ، لك أن تقبله أو ترفضه. حين اقترب الفيلسوف “برغسون” من هذه المنطقة الحلميّة الشاعريّة كما يقول الفيلسوف الجمالي “باشلار” اتّهِمَ حينها بالمغالاة، إذْ وصَفَ الخطّ المنحني بالجلال، والخطّ المستقيم بعدم المرونة. فما الذي يمنع فيلسوف ظاهراتي أن يقول الزاوية باردة والخطّ المنحني بارد. وأنّ الخطّ المنحني يرحّب بنا أما الزاوية فترفضنا، وأن الزاوية ذكريّة والخط المنحني أنثوي. هكذا يسترسل الفيلسوف الجمالي متشبّهاً بالشاعر الحالم. وفي قراءة هادئة لمنطق الحقيقة الشعرية الخاص، يقول الظّاهراتي: إن جلال الخطّ المنحني يمتلك إمكانية التشبّه بالعشّ. حيث يحرّض بنا حسّ الامتلاك لركن دافئ لهندسة شاعريّة مسكونة بالألفة. حالم اليقظة وحده يستطيع تصوّر ذلك وأن يتكوّر ويسترخي داخل الخطوط والانحناءات بحثاً عن دفء. قلت الشاعر يستطيع أن يعيش ذلك في لحظات كثيرة على أنّه حقيقة يستفيء إلى ظلالها كلّما أغرته اللحظة في البحث عن برزخ تأمّل يرى من خلاله العالم كما يحلم ويركبه كما يريد. لا كما هو في الواقع الهندسي المألوف للحواس. يتابع الفيلسوف الظاهراتي المضطّر لمصادقة الشاعر الحالم كي يصل إلى نتيجة منطقيّة ترضى براهينه الموضوعيّة: “كثيراً ما أتخيّل الكلمات بيوتاً، كلّ بيت له قبو وعليّة. الحسّ السليم يسكن الطابق الأرضي، والشاعر يسكن القبو أو العليّة، الركن المنزوي الخاص. حين نصعد درجات البيت، أيّ الكلمة فإنّنا ننطوي مع كل درجة تصعدها. وحين نهبط إلى القبو فإنّنا نضيع في الممرّات البعيدة للأصول ولتاريخ الكلمات الخفيّين، باحثين عن كنوز لانجدها في الكلمات. الصعود والهبوط في الكلمات ذاتِها، تلك هي حياة الشاعر. الصعود إلى علو شاهق والهبوط إلى الأعماق السّحيقة مسموح به للشعراء الذين يجذبون السّماء إلى الأرض. لذلك حكم على الفلاسفة أن يعيشوا في الطوابق الأرضيّة. إلا إذا امتلكوا أجنحة الشعراء فهم سيحلّقون كما يحلو لهم ويدخلون في الشقوق والزوايا المعتمة والأماكن الضّيقة برقّة الفراشات، وتصميم النّحل. وسيخرجون بمنتهى السهولة. أو فليتركوا الأمر للشّعراء فهم سيتكفّلون بإدخال الفيل في خرم الإبرة لو أرادوا.
أوس أحمد أسعد