الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ممدوح عدوان.. ظل الإبداع الأخضر

سلوى عباس

ستة عشر عاماً على الغياب.. ستة عشر عاماً كانت قبلها الثقافة والأدب والفن والحياة بنكهة ولون مختلف، وكان الأديب الراحل ممدوح عدوان الذي مضى الآن ستة عشر عاماً على إغفاءته الطويلة مع كثير من مجايليه رموزاً حقيقيين للإبداع بكل مجالاته، إذ رغم كل ماكنا نعانيه حينها من تعب، نراه بعين اليوم حالة من الترف الذي لم يخطر ببالنا يوماً أننا سنتذكرها كزمن بهي أمام قتامة ووجع ما نعيش الآن.

عاش ممدوح عدوان حياة طال “مخاضها” فلم يحمه “الظل الأخضر” لأن “تلويحة الأيدي المتعبة” قد أنهكتها الأقلام، والرجل الذي لم يحارب أحزنته الدماء التي دقت النوافذ قبل أن “يقبل الزمن المستحيل”. من يعرف ممدوح عدوان أو يقرأ له يعرف غزارة ذلك المبدع ويتعلم منه الحياة والتنوع، فهو لم يقهر المرض ويسخر منه فقط، بل علّم درساً أن الإبداع والاستمرار غير ما يظنه الناس، فالأمل فيه نهم، لكنها النهاية أن يرحل تاركاً مما أبدع إرثاً لا يمكن محوه مهما حاولت السنون، فهو قامة عالية في المشهد الثقافي السوري والعربي، استمر سنوات طويلة قبل أن تستكشف أبعاد إبداعاته التي تركها لنا شعراً ومسرحاً وترجمات، كان رجلاً دؤوباً في كل شيء، حلّق في سماء الشعر مخاطباً نخبة متذوقيه، ووقفت شخصياته على خشبة المسرح لتعلن احتجاجها أمام جمهور شغف بالمسرح، وعرف كيف يحول الأحلام الجماعية إلى أعمال درامية مؤثرة في وجدان الناس العاديين، كما هي مؤثرة في قراءة جديدة للماضي على ضوء حاجات المستقبل.. إنه ظاهرة غير عادية في حياتنا وإذا كان الإنسان في هذه الظاهرة قد غادر فإن ما بقي منها كفيل بأن تقف الأجيال عنده طويلاً للتأمل والمعايشة والإفادة وملء الروح بكل ما هو رائع ومدهش من المشاعر والأفكار والأحلام والتصورات، وحتى في الصحافة افتقدناه صحفياً لامعاً يكتب من القلب في كل مسألة يتناولها فكان صوتاً صادقاً وجريئاً ومعبراً عن قضايا الإنسان. فهو الأديب المتعدد المواهب والغزير الإنتاج، وهو المبدع المتميز والمؤثر في كل ما خطه قلمه، ومؤلفاته الكثيرة بأجناسها الأدبية المتعددة إنما تتضافر معطياتها وتحتشد مضامينها وفعالياتها الإبداعية لتشكل مشروعاً أدبياً ذا رؤية متكاملة ومنسجمة، فممدوح عدوان الشاعر هو ممدوح المسرحي والروائي والمترجم، وهذه المأثرة دليل على صدق هذه التجربة الإنسانية أولاً والكتابية ثانياً، وإنها لرؤية حملت هموم الناس في وطنه، فكان الصوت الصافي للجوهر الإنساني النبيل، وطائر بعدة أغرودات مجتزأة أكمل من خلالها صوتاً ما ونشيداً أراده على طريقته الخاصة.. كان يعرف ماذا يقول وكيف يلتقط اللقطة الذكية اللماحة.

ممدوح عدوان الجسد الذي تمشى في دروب وحارات الوطن، وسجل على كل جدار كلمة حق ونبض حقيقة.. الظاهرة الثقافية الأصيلة التي ستبقى شاهداً على جدارة الإنسان العربي بالإبداع والابتكار والإدهاش، ولا عزاء عن المبدعين حقاً سوى إبداعهم الحي الباقي في ذاكرة الناس وذاكرة الأرض التي أينعوا على ترابها.

إنها تحية وفاء لعلم من أعلام الثقافة السورية نفتقده كثيراً أختمها بعبارة له كانت آخر ما سمعته منه قبل رحيله بأيام: “سأبقى أقف على تلال مصياف أصرخ بالعابرين “الغيوم التي لا تمطر حملها كاذب”. وفي هذه العبارة الكثير من الإيحاء لغيوم تعبر سماء الأدب اليوم بحمولات مشوهة وليست غير ماطرة فقط.