الهوية السورية في الفن التشكيلي ضبابية وغير واضحة المعالم
يمثّل مفهوم “الهوية” أحَد المحاور الفكرية الثقافية المهمّة التي تستقطبُ اهتمام الباحثين والنقاد منذ القديم وحتى اليوم، ليس في مجال الفن التشكيلي فحسب بل في كل المجالات، وقد أصبح في زمن العولمة وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة موضوع الساعة. من هنا ناقشت أولى ندوات أيام الفن التشكيلي والتي عُقدت في كلية الفنون الجميلة مؤخراً مسألة الهوية السورية في الفن التشكيلي، بإدارة الفنان والناقد أكسم طلاع ومشاركة الفنانين: أكثم عبد الحميد، إدوارد شهدا، د. سائد سلوم.
الهوية الشخصية
وعلى الرغم من الاختلاف الواضح الذي بدا في الرؤى بين المشاركين حول مفهوم الهوية في اللوحة، إلا أن الجميع اتفق على أن إشكالية الهوية في الفن التشكيلي السوري تبدو جليّة اليوم من خلال ما يقدّمه الفنانون الشباب من منجزات تشكيلية في المعارض المحلية، وقد أشار الفنان أكثم عبد الحميد في مشاركته إلى أن أهم شروط تكوين الهوية الإبداعية هي البيئة والجغرافيا الموحّدة بالمكان، ثم التراكم الثقافي للمستقبل عبر مسيرة العلاقات الإنسانية الحيّة التي تعكس داخلها كل الجماليات الثقافية والأخلاقية والسياسيّة والاجتماعية، والمندمجة جميعاً تحت عنوان واحد هو “الهوية الشخصية” للشعوب التي تخزن في ذاكرتها الصيرورة الثقافية للفنون الزمانية والمكانية، وأنه من المؤسف أنه كُتب على هذه المنطقة في العالم العربي عدم الاستقرار السياسي والثقافي والاجتماعي الذي دفع الهوية الإبداعية الثقافية للتأرجح وعدم الوضوح والتشويش على الصورة الحقيقية للهوية السورية الشاملة. ومن جملة الأسباب التي كان لها الأثر الكبير في تجزئة الهوية الإبداعية الثقافية وتغيير البيئة الثقافية السورية -برأي عبد الحميد- مخلّفات الاستعمار الأوربي للمنطقة حين جزّأها إلى دويلات متعدّدة وسوّرها بحدود سياسية، محطماً بذلك الهوية الشاملة والمتكاملة للمنطقة مما دفع بها إلى إحداث هويات مجزّأة ومصغرة ضمن بيئات صغيرة الحدود، إضافة إلى وجود سبب ثانٍ كان الطامة الكبرى –برأيه- في جعل الهوية السورية ضبابية وغير واضحة المعالم وبعيدة كل البعد عن الوجه الحقيقي للهوية السورية، وهو التماهي مع التيارات السياسية والوصول إلى غايات كانت على حساب الشخصية السورية وتراثها وأوابدها العظيمة، وأولى هذه التيارات التيار السياسي الإحواني الذي قاد قاع المجتمع إلى فكرة اللون الواحد ورفض الآخر والثقافات المتعدّدة المكوّن منها المجتمع السوري، حيث سيطرت هذه التيارات المتشدّدة على كثير من منافذ القرار والتدخل بالمناهج التدريسية لطلابنا، سواء في المدارس أو الجامعات، إلى جانب التيار الثاني المؤثر في طمس الهوية الثقافية السورية ودوره في إهمال الوجه الحقيقي لسورية، في الوقت الذي كانت تتنكر فيه الكثير من الدول العربية للأمة العربية وكان لها الدور الأكبر في تدمير سورية وحضارتها، وقد انعكس هذا التماهي أيضاً في المناهج التدريسية للطلاب على حساب التوسّع في دراسة تاريخ سورية وحضارتها والتعرف على دورها الحضاري في نشر المعرفة والعلم والإبداع في العالم القديم، وتوقف طلاب المدارس عن زيارة الأوابد التاريخية والمتاحف والتعرف على هويتهم السورية، أما العامل الأخير -برأي عبد الحميد- فهو ما بدا واضحاً في نتاجات أغلب الفنانين الشباب وغياب الهوية السورية عن هذه النتاجات واعتمادهم على ثقافة الانترنت والاستعانة بمفردات تشكيلية منه لتكوين إبداعات بعيدة كل البعد عن بيئتنا وثقافتنا التاريخية النابعة من روح هذه الأرض.
وختم عبد الحميد كلامه متسائلاً في خضم هذا المدّ والجزر: من سيحمي الهوية الثقافية السورية من هذا العبث؟ ومن سيوقف هذا المدّ بأخذ سورية إلى أوجه أخرى وثقافات مغايرة في ظل غياب الفكر والثقافة عن الشارع السوري، ووجود من يحاول أن يسدّ هذا الفراغ من أصحاب الفكر الظلامي الذي ساهم في تدمير وتحطيم التراث والأوابد العظيمة خلال الحرب على سورية والتي كانت تشكّل الصورة الكبيرة لهوية المجتمع السوري؟.
الهوية السورية
وبيَّن إدوارد شهدا أنه في مراحل مختلفة منذ بداية القرن كان الموضوع القومي والهوية العربية والالتزام بقضايا الأمة هو السائد في مجال الفنون والأدب، ولكن مع مرور الوقت والفشل في تحقيق تلك الشعارات التي تمّ إطلاقها كان التفكير بالهوية السورية، وكان السؤال برأيه: ما هي الهوية السورية التي يجب أن يتمّ التفكير بها؟ خاصة وأنها هوية متنوعة تحمل كل الثقافات، لأن سورية عبر تاريخها الطويل كانت معبراً تاريخياً لكل الامبراطوريات. وأوضح شهدا أن الهوية تكون واضحة أكثر في المجتمعات المنغلقة، وخير مثال على ذلك الفن الفرعوني، في حين أن سورية لم تكن كذلك لانفتاحها، مؤكداً أن الهوية في الفن ليست لها علاقة بالماضي والحاضر والتراث لإيمانه أن الفن لا ينتمي للزمن وهو قائم بحدّ ذاته، لذلك هو لا يستطيع أن يقول اليوم إن الفن التدمري تراث قديم، وهو يراه حياً وأفضل من الفنون الموجودة بيننا والتي يمارسها الفنانون الشباب حالياً بمفردات غربية لأنهم يعيشون في عصر الميديا التي جعلتهم يغادرون الجغرافيا التي هم فيها والتفاعل مع الثقافات الأخرى.
من هنا رأى شهدا أن موضوع الهوية موضوع نسبي وغير محدّد، حيث إن فناني اليوم يستوعبون العالمية أكثر من الجيل الذي ينتمي إليه والذي عاش فترة النضال القومي وشعار الأمة الواحدة، وهذا الواقع وهذه الإخفاقات التي عاشها الإنسان السوري انعكست على فنه، خاصة وأن اللوحة بالأصل منتَج غربي، لذلك بيَّن شهدا أن الهوية اليوم هي هوية فردية، حيث إن لكل فنان هويته بأسلوبه الخاص، مشيراً إلى أنه في فترة من الفترات حاول أن يشتغل على موضوع الدمج بين المنمنمات والأيقونة السورية، لكن هذا الأمر ليس بهوية وإنما هو أسلوب عمل لاستخلاص نمط تشكيلي معيّن ينتمي إلى مرحلة. وختم شهدا كلامه قائلاً: “في ظروف العولمة وانحسار الهويات الوطنية، وفي زمن الحداثة كيف نقول لفنان قدّم هويتك السورية وأن البحث عن هوية محدّدة عبث؟” مشيراً إلى أن إلقاء نظرة على المعرض السنوي المقام حالياً سيجعلنا ندرك ذلك، فالمعرض يتضمن منتجات تشكيلية هي انعكاس للفن الغربي في معظمها، ولا عجب في ذلك –برأيه- لأن هؤلاء الذين تخرجوا من كلية الفنون الجميلة تدربوا ودرسوا الفن الغربي، وهذا الكلام أيضاً ينطبق على الرواد الذين درس معهم في دول الغرب، من هنا أتت معظم الاتجاهات التشكيلية التي لها علاقة بالمدارس الغربية.
تعريف الهوية
أما د. سائد سلوم فتحدث عن تعريف الهوية، كما جاء في “لسان العرب” هوية تصغير هوة، وقيل الهوية بئر بعيدة، وهاوية، والهاوية اسم من أسماء جهنم، وفي الموسوعة العربية قانون الهوية ويعني أن لأي شيء ذاتية خاصة يحتفظ بها دون تغيير، فالهوية تفترض ثبات الشيء على الرغم من المتغيّرات التي تطرأ عليه، وموسوعة أندريه لالاند تقول إن الهوية ميزة فرد أو كائن في مختلف فترات وجوده، ورأى د. سلوم أن كل التعاريف لم تقترب من المفهوم الذي طرحته الندوة.
أمينة عباس