“لالا لاند”.. الفن يجمع.. الفن يُفرّق
على قدم المساواة في عدد الجوائز والترشيحات، مع كل من فيلمي: “كل شيء عن ايف”- 1960 (سيناريو وإخراج جوزيف مانكيفيتس)، و”التايتنك” – 1997 (تأليف وإخراج جيمس كاميرون)، يقف “فيلم لالا لاند” – 2016، لمؤلفه ومخرجه داميان تشازل، كأحد أبرز وأجمل الأفلام السينمائية ضمن نوعه في العقد الأخير، وبهذا يكون من الأفلام السينمائية الدرامية القليلة في العقود الثلاثة الماضية- على الأقل- التي تنتمي لنوع “رومانس- ميوزكال”، والتي تحظى بهذا الاهتمام الكبير، سواء من أهم مهرجانات السينما العالمية وكبار نقاد الفن السابع الذين أجمعت أقلامهم على السوية الفنية المميزة للفيلم بمختلف مكوناته، أو بنسبة الحضور الجماهيري المرتفعة التي نجح “لالا لاند” في جذبها لمشاهدته بعد أن حقق على شباك التذاكر أضعافاً مضاعفة من تكلفة إنتاجه، حيث بلغت كلفة الإنتاج 30 مليون دولار، وهي تكلفة زهيدة في عالم السينما، وحصد شباك التذاكر 436 مليون دولار، هذا عدا عما حققته المنصات الرقمية التي عرضته فيما بعد من أرباح طائلة جراء عدد المشاهدات التي تجاوزت الـ 100 مليون مشاهدة، رغم أن الفيلم يحكي قصة رومانسية تم التطرق لها مراراً وتكراراً، إن كان في المسرح أو السينما أو التلفزيون، إلا أن أسلوب “تشازل” في الإخراج جعل الحكاية مبهرة، كما لو أن قصة الحب الجامحة بين شاب وفتاة يفترقان في النهاية تُعرض للمرة الأولى، وذلك بعد التنويع المشوق والممتع على الحكاية التي أعطاها زخماً درامياً حُبك ببراعة وعلى مستويات متعددة، ويمكن القول ببساطة إن هذا النجاح الكبير للفيلم في العالم يعود للعديد من الأسباب الفنية مجتمعة، إلا أن أهم سبب للنجاح الذي حققه يعود، وفق رأي شخصي، لحاجة وتعطش الجمهور العالمي بمختلف شرائحه وخلفياته الثقافية، وفي هذا الزمن القاسي الذي مرت وتمر به البشرية عموماً، لهذا النوع من الأفلام السينمائية التي تجتمع فيها كل عناصر الجذب والمتعة، ليس بدءاً بالحكاية، ومروراً بتظهيرها كفرجة درامية سينمائية مبهرة بعناصرها المكونة لها: الرؤية الإخراجية، الأداء، التصوير، الإضاءة، الألوان، الموسيقا وطبيعة الأغاني، زمن الفيلم المتناسب بعناية مع طبيعة الحكاية، صياغة الحركة الاستعراضية في مزجها لعدة أنواع موسيقية مع بعضها البعض، تطور الشخصيات وتناميها بعد كل منعطف تمر به، فلا تعود إلى سابق عهدها، بل إنها في تطور دراماتيكي تفرضه طبيعة الأحداث ومنطقها، أيضاً البناء المحكم والمسبوك بحرفية للمشاهد والحوارات عموماً.
الفيلم الذي جاء وكأنه حلم ملون يستعرض قصة ممثلة شابة – أدت دورها النجمة ايما ستون – تحلم بأن تصبح ممثلة مشهورة، لكنها تفشل مراراً وتكراراً في تجارب الأداء، تلتقي صدفة بموسيقي شاب – أدى دوره النجم السينمائي رايان غوسلينغ – له ذوقه الموسيقي الخاص الذي لم يعد رائجاً كما السابق، لكنه يُصر على تقديمه لهذا النوع من الموسيقا في الحانات التي يعزف فيها، ويحلم بتأسيس ناديه الخاص للجاز، وهنا الفن نفسه هو من سيجمع كل من “ميا” و”سيباستيان”، فبعد أن تنهي ميا عملها وهي عائدة من فشل جديد في تجارب الأداء، تعبر أمام الحانة التي يعزف فيها سيباستيان، تلفت المقطوعة الموسيقية التي يعزفها انتباهها، وعندما ينتهي تلوح له بيدها وتقرر الدخول لتحييه على وصلته الموسيقية التي انتشلتها من تلك اللحظة البائسة التي تمر بها، لكن مدير الحانة في الوقت نفسه يقوم بطرد سيباستيان من العمل بعد أن رفض الأخير الانصياع لما يريده جمهور الحانة من موسيقا يجد أنها تافهة، في تلك اللحظة يلتقيان، هي بوجهها الضاحك، وهو بوجهه المتجهم مما حصل معه، وهكذا يعبرها دون أن يعيرها أي اهتمام.
مرة ثانية ستلعب الصدفة لعبتها في لقائهما، ففي إحدى الحفلات التي دُعيت إليها، يكون الموسيقي الطموح يعزف مع الفرقة التي تحيي الحفل، يلتقيان ويتحدثان لتنشأ بينهما علاقة يذهب المخرج فيها نحو عوالم خيالية وخلابة من الغناء والرقص تستمر بينهما، فتاة وشاب محبان للفن ولبعضها البعض يقضيان أوقاتاً جميلة وهما يسهران ويشاهدان الأفلام، يتقاسمان الحب والأفكار، ويتبادلان الآراء والأمنيات والهواجس، وهما يعملان على تحقيق حلميهما، يدعمان بعضهما البعض بعد كل انكسار وخيبة، ويضحيان بأجمل ما بينهما عندما تلوح فرصة للنجاح لأحدهما حيث يتمنى ويحلم.
ومثلما كان الفن سبباً في الجمع بينهما، كان أيضا سبباً في فراقهما، ميا وبعد خذلان متكرر فيما تصبو إليه، تقرر أنها لن تفكر بحلمها مرة أخرى، بل عليها أن تتخلى عنه لتلتفت لما يمكن أن تفعله في مجال آخر، لكن اتصالاً من المسؤولة عن تجارب الأداء لفيلم ضخم يغيّر حياتها وحياة حبيبها الذي يشجعها مباركاً لها بكل نبل هذه الفرصة التي لا تعوض، حتى لو كان ذلك يعني أن يفترقا، وهذا ما يحدث، تسافر ميا لتحقيق حلم حياتها، ويلتحق سيباستيان بإحدى الفرق الموسيقية، تمضي الأيام، وبعد سنين عدة، يحقق الزحام الشديد في أحد الشوارع الرئيسية، حيث تذهب ميا وزوجها لحضور إحدى الحفلات، اللحظة المؤثرة، فالزحام الشديد يجعلها وزوجها يفكران بتناول العشاء في واحد من المطاعم التي تقع بالقرب من المكان ريثما يخف الازدحام المروري، وبينما تدخل ميا وزوجها إلى حيث يدلهما النادل نحو الطاولة المتوفرة في المكان المزدحم أيضاً برواده، يصل لسمعها صوت المعزوفة التي راح قلبها يخفق بشدة بسببها، فهي المعزوفة التي كانت السبب في لقائها مع حبيبها سيباستيان، تلتقي نظراتهما، ويمر شريط الذكريات بينهما كفيلم سينمائي يعرض للأوقات الجميلة التي جمعتهما.
لقد حقق كل منهما حلمه، فهو أسس نادي الجاز الخاص به وصار من أشهر العازفين لهذا النوع من الموسيقا، ولديه فرقته وناديه الموسيقي الخاص، وهي أصبحت من نجمات السينما الأكثر شهرة في العالم، يبتسمان بود لبعضهما مع كسرة حزن خفيض في النظرات لا يخفيها أي منهما، ثم تغادر ميا المكان بعد أن تنتهي المعزوفة، ويقف سيباستيان ليتلقى التصفيق الحار على ما قدمه، وينتهي الفيلم بقصة حب مؤثرة جمعها الفن وفرّقها الفن أيضاً.
تمّام علي بركات