الشابكة والبحث العلمي
أ. د. عصام الكوسى
لا شَكَّ في أنّ الشابكة ومحركات البحث المختلفة أسهمت في دفع عجلة البحث العلمي، إذ غدت وسيلة أساسية للطلاب عموماً، ولطلاب الدراسات العليا الذين يعدّون رسائل الماجستير والدكتوراة خصوصاً، بيد أنّ تأثير ذلك في الطلاب يعكس وجهين اثنين متضادين في آن معاً، ففئة من الطلاب أفادوا أيّما إفادة من الشابكة، إذ اطَّلعوا على آخر المكتشفات والدراسات فور صدورها في بلدها الأم، وأعدّوا رسائل علمية مكّنتهم من أن يفرضوا وجودهم في الميادين العلمية المختلفة في وطنهم وخارج الوطن، مقابل هذه الفئة من الطلاب نجد فئة أخرى، وهي الأكثر، كانت الشابكة وبالاً على مستواهم العلمي، إذ خلقت فيهم نوعاً من التواكل والكسل، وأخمدت عندهم روح البحث والتنقير، لأنّ الحصول على المعلومة المطلوبة غدا سهلاً، ولا يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد، فلم يعد الطالبُ يقرأ من الكتاب إلا سطوراً قليلة، وفي أحسن الأحوال صفحات محدّدة.
أذكر أنني حينما أعدّدت رسالتَيْ الماجستير والدكتوراة كنت أنا ومجموعةٌ من زملائي مواظبين على الحضور يومياً إلى مكتبة الأسد نجلس فيها ساعاتٍ وساعاتٍ نتناقش فيما بيننا، ونسأل بعضنا أسئلةً تتعلقُ بقضيةٍ من قضايا البحث، وكلُّ واحدٍ يرشدُ الآخر إلى كتابٍ ما، لعلّه يجد فيه غايته، وكنّا نشعر بسعادة غامرة، ونحن نقرأ ونبحث ونجد ما نبحث عنه في كتب معظمها كانت تفتقد إلى فهارس فنية تعين الباحث في عمله، فكم من كتاب قرأناه من مقدمته إلى خاتمته ونحن نبحث عن رأي قاله أحد العلماء في أحد مصنفاته، أو عن شاهدٍ شعري لا نعرف منه سوى كلمة أو كلمتين. في بعض الأحيان كنت أحمل معي إلى المكتبة عدداً قليلاً من الآراء أو الشواهد لتخريجها من مظانها، وقد أغادر المكتبة مع موظفيها ولم أنجز كلَّ ما حملته، لا ريب أنّ العمل كان متعباً، ولكنه كان ماتعاً.
إنّ عدم الاتكال على الآخرين خلق جيلاً من الدارسين الحقيقيين الذين شعروا بقيمة المعلومة وبأهمية الوصول إليها، أمَّا ما نراه اليوم من الاعتماد المفرط على محركات البحث والمكتبات الإلكترونية، إذ غدا تخريج ما كان يستغرق ساعات لا يحتاج أكثر من دقائق قليلة، فلم يعدْ للبحث العلمي متعته، وخبا حبُّ القراءة، ولم يعُدِ الكتابُ خيرَ جليسٍ عند الكثيرين، ونادراً ما نجد طالباً قرأ كتاباً كاملاً، والأنكى من ذلك أنّ بعض الباحثين في النحو والصرف لا يعرفون كم جزءاً كتاب سيبويه أو المقتضب أو شرح المفصل، فأيّ خواء معرفي وصلوا إليه؟ وبعضهم قد يصبح أستاذاً جامعياً، ولكنَّهُ في حقيقة الأمر لا يختلف عن أيّ مدرّس في مرحلة ما قبل الجامعة يلتزم بالمنهاج والكتب التي حدّدتها وزارة التربية!.
إنّ جيل الباحثين الذين لم يعاصروا الشابكة والكتب الإلكترونية كانوا يتفاخرون بعدد الكتب التي تضمّها مكتباتهم التي تحتل ركناً مهماً في المنزل، وكان أجمل هدية هي الكتاب، ولاسيما النادر أو المطبوع طباعة حجرية، وصارت معارض الكتب أعياداً حقيقية لهؤلاء، يدّخرون نقودهم لشراء الكتب التي يحتاجون إليها في أبحاثهم في المعرض، وكم من مرة اشتريت بكل ما ادخرته، ولم يبقَ معي سوى أجرة العودة إلى البيت. أمّا اليوم فإنّ نظرة سريعة إلى مستودعات الكتب في بعض الكليات تبيّن لنا مقدار الهوة بين الطالب والكتاب، فمعظم طلابنا في سنوات الدراسة الأولى يعتمدون اعتماداً تاماً على المحاضرات التي تعدّها المكتبات، بما تضمّها من أخطاء علمية، ويعزفون عن شراء الكتاب الجامعي على الرغم من أنّ ثمنه أقل من ثمن المحاضرات التي قد لا تغطي الكتاب كله!! وكم من طالب تخرّج في قسمه ولم يتعرف الكتب الجامعية التي أعدّها مدرسوه، وغدا السؤالُ الذي أقرأه في مجموعات الطلبة على وسائل التواصل الاجتماعي، محاضرات أيّ مكتبة تنصحوني بشرائها؟! فهل الطالب من هؤلاء سيكون ذا جَلَد إنْ تابع طريقه في الدراسات العليا؟!.
للموضوع بقية أخطر مما قلت، فانتظروا البقية.