الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

في رحاب القانون

عبد الكريم النّاعم

-لا يُوجد مجتمع في التاريخ ليس له قانون، بصيغة ما، لأنّ من شروط أيّ تجمّع ينضوي تحت سمائه جماعة بشرية أن يخضع لمنظومة ما، مهما كانت بدائيّة، أو مُفتقرة لشروط مفهوم القانون في عصرنا الذي نحن فيه، لأنّ هذا المفهوم خضع لتطوّرات مجتمعيّة عميقة اقتضتْ تطوّراً في المفهوم ذاته، فالتّشكيلات العائليّة أو العشائريّة أو القبَليّة تخضع لعادات وتقاليد ما يزال بعضها قائماً حتى الآن، والعادات والتقاليد كانت الخطوات الأولى الضرورية للوصول إلى الصّيغ القانونيّة التي تفخر بها المجتمعات المتقدّمة، نقول هذا وفي الذاكرة شريعة حمورابي، ورحلة القانون كتشريع في اليونان القديمة، وارتحاله فيما بعد إلى “روما” أيام قوّتها، ولسنا بصدد التقصّي، والتّقييم، والمُبالغة التي رافقت “الديموقراطيّة” في أثينا، والتي كانت شأناً خاصاً بالأحرار لا بالعبيد، ولا بالشرائح الأخرى المشابهة.

-حين نستعرض القوانين التي عرفتْها البشريّة، لاسيّما في الصور الحديثة فسنجد أنّها تنطق بالعدل في حدود تناسب زمنها، ومكانها، وهي قابلة للتطوّر، بل وللتغيير، بحسب الحراك المجتمعي وقوّة فاعليّته، وهي تنزع في ذلك نحو ما هو أكمل، وأعمق، يُستثنى من ذلك قوانين التّمييز العنصري التي كانت قائمة في الولايات المتحدة حتى زمن لم يُنسَ بعد، والقانون الذي كان سائداً في جنوب أفريقيا قبل تحرّرها، وقوانين الاحتلال الصهيوني المطبّقة في الأرض المحتلّة، تحت سمع العالم وبصره، ولا يفوتنا أن نشير إلى أنّ ثمّة بلداناً عربيّة ما تزال تحكمها الأعراف والتقاليد القَبَليّة، ورغبةُ الحاكم قبل هذا وبعده، و(تُعطى) الآن دوراً خطيراً في دفع مسار التطبيع مع العدوّ الصهيوني، استكمالاً للدور الوظيفي الذي أُنشئت أساساً من أجله، كما لا يفوتنا أن نشير إلى قرارات الأمم المتّحدة فيما يتعلّق بالأرض المحتلّة منذ سبعين عاماً، دون أن يكون لها أيّة قيمة، إلاّ قيمة أنّها شاهدة على الأزمنة التي يتفرّد فيها الغرب بتنفيذ ما يخدم مصالحه، وبإغماض عينيه الاثنتين حين لا تكون له مصلحة.

-غالباً ما تكون العلّة ليست في (القانون)، ففي عصر ما بعد الحداثة كما يُقال، لا تجد دولة مهما صغرتْ ليس لها قانون، بينما نجد التحايل على هذا القانون، والالتفاف عليه، وخرْق حصونه، لدرجة يكاد يكون قانوناً على الورق ليس إلاّ، في مساحات مخيفة، بينما النصّ القانوني المُعتمَد رسميّاً على درجة عالية من الرقيّ، وحُسن الصياغة، ولا شكّ أنّ البلدان التي نُطلق عليها أنّها دول متقدّمة قد تجاوزت هذه المطبّات، بحكم تطوّرها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ووصلت إلى مرحلة لا يستطيع الحاكم فيها أن يتجرّأ على خرق القانون المعمول به، وإذا وُجد فساد ما، وهو موجود، فإنّه يتخفّى لدرجة ما يكاد يبيّن فيها، وإذا ظهر، فسيادة القانون ستطال ذلك المتعدّي، فكم من وزير استقال، لأخطاء لا تصل درجة خرق القانون، بل لخرقها حساسية تجرح اللوحة العامّة، كاستقالة وزير اكتُشف أنه على علاقة بامرأة في أوروبا!.

-لعلَ من أخطر ما تواجهه المجتمعات الطامحة للنموّ هو هذا التجرّؤ على حُرمة القانون، لاسيّما حين يتعرّض بلد ما لكوارث من الخارج، أو من الداخل، ويتكالب عليه أعداؤه، فأنت حينئذ أمام قانون عصريّ لامع وجميل، ولكنّ انتشار الفساد ينجح في اختراق تلك الحصون المنيعة، والعلّة ليست في القانون، بل فيمن يُعهَد إليه بتطبيق هذا القانون، وهكذا نكون قد انتقلنا من مساحة الورق والنصّ المكتوب، إلى مساحة (الوجدان)، وهذه مساحة لا يُوصَل إلى نصاعة بياضها إلاّ بالتربية، وبما يُحصّن (حارس) المستودع من أن لا يسرق الموجودات التي يحرسها.

ما سبق يستدعي تلك الجملة (النّورانيّة) ولا أقول (الذهبيّة) لِما في الذهب من أنفاس شيطانية، يستدعي جملة “العدل أساس الملك”، وأكثريتنا يذكر ما قاله تشرشل في الحرب العالميّة الثانية، ولندن تُقصَف، حين اجتمع بمجلس الوزراء، وكان أن توجّه بالسؤال لوزير العدل، لا لغيره، وسأله: “كيف تطبيق القانون”، فقال: “مثل حدّ السيف”، فأنهى الاجتماع قائلاً سننتصر..

aaalnaem@gmail.com