“العصر الآسيوي”.. اللغز الذي بات كياناً عالمياً
عناية ناصر
منذ حوالي 100 عام، دعا كل من: الباحث الياباني أوكاكورا تينشين، والشاعر الهندي رابندرانات طاغور، والباحث الصيني ليانج كيشاو، إلى النزعة الآسيوية، لقد مضى قرن تصور خلاله العديد من المفكرين صعود آسيا، ولكن الآن، العصر الآسيوي قادم.
جمع توقيع الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) في 15 تشرين الثاني الماضي دول الآسيان واليابان وكوريا الجنوبية والصين واستراليا ونيوزيلندا في واحدة من أكثر الكتل التجارية تنوعاً واكتظاظاً بالسكان على وجه الأرض.
إنها تمثّل حقبة جديدة للتعاون الإقليمي الآسيوي الذي يتميز بالتعددية والليبرالية التجارية، وفيما يتعلق بعملية التعافي العالمي خلال حقبة ما بعد الجائحة، يمكن لهذا التكوين الجديد أن يحقق العديد من الأشياء.
بحلول عام 2025، من المتوقع أن يلحق الناتج المحلي الإجمالي الصيني، أو حتى يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وقد تتفوق الهند على ألمانيا لتصبح رابع أكبر اقتصاد في العالم، وستسقط البلدان الأوروبية في كساد غير مرئي لم يحدث منذ 500 عام، منذ أن بدأ المستكشف البرتغالي فرديناند ماجلان رحلته العالمية في عام 1520، ووضع الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم يقترب من نهايته، فللمرة الأولى، ستكون ثلاث دول آسيوية من بين الاقتصادات الأربعة الرئيسية في العالم.
تُظهر دول شرق آسيا، التي تركز على النظام في ثقافتها، كفاءة أكبر في مكافحة الوباء، مقارنة بالدول الأوروبية والولايات المتحدة التي يُزعم أنها تقدر الحرية أكثر، لذلك، تعمل الدول الآسيوية أيضاً على تنشيط اقتصاداتها بشكل أسرع من أجزاء أخرى من العالم، ومن المتوقع أنه بحلول عام 2030، ستساهم آسيا “بنحو 60 بالمئة من النمو العالمي”.
لا يطمح القادة الآسيويون إلى بناء “تحالف آسيوي”، وبناء “امبراطورية آسيوية” لتحل محل الولايات المتحدة، ولا الزعم بأنها تفعل شيئاً عظيماً مثل “إنقاذ العالم” مثل بعض المبشرين، على النقيض من ذلك، يميل هدف قادة الدول الآسيوية، وخاصة شرق وجنوب شرق آسيا، إلى التركيز على الشؤون الداخلية، إنهم يسعون جاهدين لتلبية احتياجات الجمهور في ضوء أوضاعهم الوطنية.
تدعو الدول الآسيوية إلى “التعلّم بالممارسة”، وتتفوّق في استغلال رأس المال الخارجي والمواهب والخبرات والدروس، ومنذ التسعينيات، حافظت منطقة شرق آسيا على السلام والتعاون لمدة ثلاثة عقود، وشهدت أسرع نمو من حيث الاستثمار والتجارة، واستفادت اليابان وكوريا الجنوبية بالكامل من رأسمالية الدولة لتعزيز الاقتصاد الموجّه للتصدير، لقد كرّس أعضاء الآسيان وجودهم وأصبحوا جزءاً مهماً من العالم متعدد الأقطاب، ومنذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، تعلّمت الصين كيفية تخصيص الموارد العالمية.
من بين القارات السبع في العالم، تعد آسيا الأكبر، وتضم أكبر عدد من السكان وأقدم الحضارات، إنها أيضاً القارة ذات الأعراق والدين والجغرافيا والتاريخ الأكثر تعقيداً، وحتى الآن، منع هذا التعقيد آسيا من إنشاء مجتمع مرتبط بـ “التكامل”، خاصة أنه لا توجد عملة واحدة مثل اليورو، ولا توجد منظمة سياسية موحدة داخل القارة مثل الاتحاد الأوروبي، أو الاتحاد الأفريقي، أو مجتمع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، كما تفتقر إلى منظمة تكامل اقتصادي مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، حتى الألعاب الآسيوية التي من المفترض أن يشارك فيها جميع أعضاء القارة لم تكن مكتملة، لم يتوقع أحد أن يصبح هذا اللغز في العديد من الأماكن تدريجياً كياناً محترماً بحد ذاته، ومع ذلك، يمكننا أن نتوقّع أن تصبح مدونة سلوك الآسيويين محترمة بشكل متزايد في حقبة ما بعد الجائحة.
إن القيم الآسيوية الأكثر ملاءمة للتنمية البشرية سوف تجد جاذبية عالمية متزايدة، وسيكون هذا هو الحال لدى دول مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية، حيث تثبت هذه الدول الآسيوية أنها تستطيع تحقيق توازنات دقيقة بين الحكومة والسوق والمذهب التجاري والعدالة والحقوق والمسؤوليات والحرية والانضباط الذاتي، وكذلك الأفراد والمجتمع.
يقول الباحث الأمريكي الهندي باراغ خانا في كتابه الجديد “المستقبل آسيوي”: “في القرن التاسع عشر، كان العالم أوروبياً، في القرن العشرين، أصبح أمريكياً، الآن، في القرن الحادي والعشرين، يصبح العالم آسيوياً بشكل لا رجعة فيه”، هناك كتابان آخران في الاتجاه ذاته: أحدهما هو “نصف الكرة الأرضية الآسيوي الجديد: التحول الذي لا يقاوم للقوة العالمية إلى الشرق” ، بقلم كيشور محبوباني، العميد السابق لكلية لي كوان يو للسياسة العامة في جامعة سنغافورة الوطنية، والكتاب الآخر هو “التوجّه نحو الشرق: صعود آسيا وانحدار أمريكا من أوباما إلى ترامب وما بعده”.
ولفهم “العصر الآسيوي” لابد من الإضاءة على التجربة الخاصة، فمنذ عام 2013 ، طرحت الصين مبادرة الحزام والطريق ورؤية “مجتمع مصير مشترك للبشرية”، هناك كل الأسباب للاعتقاد بأن الصين تتقدم “بالعصر الآسيوي” في الاتجاه الصحيح، ومن المؤكد أن مقدمة “العصر الآسيوي” كانت طويلة في الإعداد لها، الأمر الذي يذكر بروح المثابرة لـ “يو غونغ”، شخصية من قصة صينية قديمة، البالغ من العمر 90 عاماً، والذي استطاع من خلال عمله الجاد ومثابرته وقوة إرادته تحريك الجبل، والدول الآسيوية تتمتع أيضاً بروح “يو غونغ”.