وكيل بابا نويل!؟
د. نهلة عيسى
أنا في حيصَ بيص منذ أسبوعين، لا شغل لي سوى تلقّي الهواتف من حفيدتنا الصغيرة، وبعض أبناء الشهداء يحمّلونني فيها طلباتهم إلى “بابا نويل”، باعتباري بالنسبة إليهم “وكيلته الحصرية” في بلاد الشام!، وقد يعاودون الاتصال في اليوم الواحد أكثر من مرة، إما لتغيير الرغبات، وغالباً لإضافة المزيد من الرغبات، سكوتر، ثياب أميرات، شجرة ميلاد، ألعاب باهظة الأثمان، مع توصيتي في كل مرة بتخفيض صوتي أثناء الكلام، وهم يبتزونني عاطفياً لمعرفة ماذا أرسل لهم معي بابا نويل هذا العام، لكي لا يسمعنا فيغضب منهم لأن الأوان ليس الأوان!؟.
أمارس دوري بصدق وإتقان، وأدّعي أنني لا أستطيع الكلام، لأن بابا نويل إذا عرف أنني قد أفشيت سر الهدايا سوف يعزلني من منصب الوكيلة، ولن أستطيع أن أحمل إليهم هداياه في القادم من الأعوام، فيتوقفون عن التساؤل مضطرين متلهّفين، وأستمتع أنا أني سأقطف البهجة والدهشة طازجة من عيونهم عند تسليم الهدايا، وأعرف أني أنانية بذلك، ولكن من فينا ليس أنانياً أمام ضحكة طفل ومن ثم قبلة وحضن، ومطالب جديدة لعيد الميلاد في “الصيف”!؟.
ويتهمني بعض أصدقائي بأنني أحابي الجميع عدا نفسي، فهذا من وجهة نظرهم جهد كبير، وليس بالسهل، وهو أمر أنفيه، لأنه ليس حقيقياً، فأنا أفعل ما أحبّ وما أجيد، وهو إلى حد كبير يعكس قناعتي بأني أمثل الجميع، أصدقائي الذين يشاركونني القسط الأكبر من ثمن الهدايا، وكل من في الوطن ممن يتمنون لو فعلوا ولكنهم لا يستطيعون، وأرى في ذلك أننا نسيج يتسع إلى شيء من الإضمار الشبحي أو الطيفي غير المرئي، حيث الكل في الكل، بجمالهم وعوارهم، وبالتالي عندما أذهب إلى أطفال الشهداء أكون.. نحن، بكل ما نحن عليه حقيقة، بعيداً عن مرايا الحرب، ومرايا الآخرين، التي جعلتنا نظن في أنفسنا أننا الجحيم!!. وهذا لا يعني أننا ملائكة، ولكن يعني أننا بشر، لدينا رغبات واحتياجات، وهموم، نحبّ ونكره، نخاف، نجزع، نبالي أو لا نبالي، يقلقنا الراتب العجوز المتهالك في مواجهة غيلان السوق، حيث تتحدّد مكانة الواحد منا وفقاً لأسعار هذا السوق، نحن مثل وطننا، كل ما في داخلنا وحولنا، مساحات شاسعة من حزن وقح، يصرخ في وجهنا كل صباح، والظهر بالجدار ملتصق: ماذا تنتظرون، ربما ملاك من السما!؟ فنردّ: لا نريد، سوق الملائكة جبر، يكفينا أننا معاً، ونريد أن يصدّق أطفالنا أن للعيد أباً!!.
يتهمني أصدقائي باللامبالاة فيمن رحل وفيمن حضر، فأجيب: يا أصدقاء جعل الله جل همومنا الجري خلف من ذهب، ولماذا ذهب؟ فأنا منذ سنوات، وكما ترفع القلاع العتيقة جسورها لتقطع صلتها بالداخلين إليها، لتعيد تحديد موقعها من نفسها ومن العالم، كبست الجرح ملحاً، وصممت الأذن عن عابري جرحنا، وبعض الأصوات المنكرة، وبعض مرتزقي القلم، ومعتادي نهش فخذ الوطن، والذين يجدون تفسيراً “جمالياً” للوجع الذي نقاسي منه، ويمارسون حياة المتقاعد في مقاهي دمائنا، يلعبون الورق، ويشربون القرفة واليانسون، ويحللون لنا، نحن الراقدون في القبور، كيف يجب أن نعيش، وكيف يجب أن نموت!!. صممت الأذن عنهم، وجعلت الجبهات وهؤلاء الأطفال قبلتي، لأنني أشعر كلما ذهبت إليهم أنني أولد من جديد، أو كأني أدخل الحرب، لأستريح من الحرب، أو كأنني في اجتماع لمّ شمل مع كل من في الوطن، أحياء وقبوراً، نتبادل الأحاديث، أرقام الهواتف، ونضحك، لعل الحرب تخجل، لعل كل من يجب عليه أن يخجل.. يخجل، وأعرف أن ذلك ربما مستحيل، لأنهم لو خجلوا ما فعلوا، ولكني دائماً أقول لنفسي: لسنا وحدنا من عانى، ولن نكون الأخيرين، من صلب المسيح يتناسل في كل جيل، ومن رفع المسيح إلى السماء موجود، والأطفال والجنود ملائكتنا الحصريون، وملائكتنا تريد أن تحتفل بالعيد، فاضحكوا ولو ليوم، واجعلوه مجيداً سعيداً، دمتم بخير، مع تحيات وكيلة بابا نويل.