صناعة الثقافة (3)
د. نضال الصالح
ما بين كانون الأول 2002 إلى أيار 2003 نشرت صحيفة الأهرام خمسة وعشرين مقالاً للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، ثم صدرت تلك المقالات في كتاب بعنوان “الثقافة ليست بخير” عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان قبل نحو ثماني سنوات.
من إحدى أهمّ المقالات في الكتاب، وكلّها شديدة الأهمية، ما تصدّرته العلامة اللغوية: “عمل المثقف وعمل الموظف”، وعلى الرغم من أنّ حجازي ضيّق مجال المقال في حدود الثقافة في مصر، فإنّ محتوى المقال يتجاوز تلك الحدود إلى ما يعني الثقافة العربية عامة، أو يكاد، ليس بسبب ما يجهر بما هو واجب الجهر به فيما يعني الأداء الثقافي العربيّ فحسب، بل، أيضاً، بسبب ما يكشف عنه من عورات باهظة القبح في هذا الأداء، ومنها غياب المثقف وحضور الموظف، وهو ما يختم حجازي مقاله به، أي قوله: “وليس للموظفين أن يحلوا محلّ المثقفين، ولا للمثقفين أن يحلوا محلّ الموظفين!”.
الأطروحة المركزية التي ينطلق حجازي منها في مجمل المقالات، والتي هي: “فإذا كانت ثقافتنا في خطر، فكلّ شيء في خطر”، ليست “بيت القصيد” في الكتاب وحده، بل هي كذلك في مدوّنة الواقع العربيّ منذ عقود طويلة. وليس أدلّ على ذلك ما تعرّض له غير جزء من الجغرافية العربية ممّا سُمّي زيفاً ربيعاً عربياً، فلو أنّ الثقافة نهضت بما كان يجب أن تنهض به، ولو كانت صفة المثقف العربي كما يليق بموصوفها، لما كان هذا الحريق، بل الجحيم الذي تقنّع بقيم هو براء منها، ولما كانت خسائر الشعوب التي تلظّت بأواره على هذا النحو الذي انتهت إليه في غير مجال وعلى غير مستوى.
ومن أبجديات الخطر في العمل الثقافي، بل في محاولة صناعة الثقافة، الدوران في فلك أسماء بعينها من الأدباء، واستعادتهم دائماً بوصفهم ألف باء في أيّ مشروع ثقافيّ، ثمّ بوصفهم مقدّسات جديرة بالإكبار والتقدير والتمجيد دائماً، وثالثاً بوصف كل منهم طاقة إبداعية لا يكررها الزمان.
وما مِن ريب في أنّ مَن يفعل ذلك، وهو يتوهم أنه صانع ثقافة، هو الموظف وليس المثقف، لأنّ معارفه، إن كانت لديه معارف، لا تتجاوز حدود المعرفة الشفاهية بالجغرافية الثقافية من جهة، وبتحولات المشهد الثقافي ومغامراته من جهة ثانية. وما مِن ريب أيضاً في أنّ التمكين للموظف من إعداد الخطط والمشروعات الخاصة بالفعل الثقافيّ، ومن ثم تنفيذ هذا الفعل، إنما يعني بقاء الثقافة في جغرافية ضيّقة وثيقة الصلة بالماضي، ومنبتة الصلة بالراهن، وعديمة الصلة بالمستقبل، وإلى الحد الذي لا يمكن الحديث معه عن حراك في الثقافة، بل عن أفعال ثقافية لا يعني صنّاعها من أمر الثقافة سوى أدائهم لوظيفة، لا صناعة ثقافة بالمعنى الدقيق للكلمة.
وبعد، وقبل، فمن بديع الأمثال الشعبية قولهم: “أعطِ الخبّاز الخبز ولو أكل نصفه”.