قال له: أريد أن أتعلّم فأجابه: ستفعل ذلك.. اطمئنّ!!
“البعث الأسبوعية” ــ أوس أحمد أسعد
من شامةٍ صغيرة على خدّ المتوسّط، المنمّش برذاذ العبق والملوحة الحائرة، تدعى “قصّابين” قضاء جبلة، انطلقتْ رحلة التّيه الأدونيسي، لتجوب شساعة الجسد السّوري وقفاره المقفلة أمام المهاجر الرّيفي البسيط ــ لولا المصادفة البحتة التي أعطته مفاتيح العبور ــ لتحلّق بالروح الشّاعريّة التّواقة للانعتاق إلى رحاب العالميّة وفضاءاتها، مروراً بطرطوس ودمشق وبيروت، ثمّ لتحقّق لصاحبها ذاك الحضور الاستثنائي في المشهد الثقافي العالمي، الذي أعاد الألق والمجد لعبارة “مالئ الدنيا وشاغل النّاس”، تلك العبارة التي ما زالت تتناقلها الأجيال بفخر عن شاعر العرب الأكبر، المتنبي.
علي أحمد أسبر هو “متنبي” العصر الحديث الذي تقمّص العبارة سلوكاً وروحاً، منذ انطلاقته الظّافرة وحتى الآن. وهو نفسه الشّاعر الذي غيّرتْ قصيدة واحدة مسار حياته كلّها. قصيدة انتزعته من براثن العتمة وألقته بقوّة في منابع الضّوء. ولإحساسه وتقديره العاليّين لذاته وذاكرته وتاريخه ولرحلة التيه هذه، المليئة بالعوائق والصّعوبات، اتّخذ شاعرنا رمزاً أسطوريّاً كبيراً هو “أدونيس”، الإله القتيل، ليتكنّى باسمه. وبدأ يوقّع به أشعاره وكتاباته المتنوّعة من قراءة تفكيكيّة لمسلّمات التراث ويقينيّاته القارّة، إلى التّنظير الأدبي، إلى التّرجمة إلى الرسم.. إلخ..
القصيدةُ المفصليّةُ التي سلّمتْ مفتاح المستقبل الذّهبي لشاعرها المجيد، كانت قد شغلتْ الذّهن الصغير لمدّة، وهو يرسمُ خطاطته المتخيّلة، لرؤية رئيس الجمهوريّة العربيّة السوريّة – آنذاك – شكري القوّتلي، الذي زار محافظة اللاذقيّة، وكيف سيلقيها بين يديه مرحّباً، وكيف سيلبّي الرئيس طلبه، وكيف؟.. وكيف؟ يقول حالماً: “سوف يسألني: ماذا تريد يا بني؟ ماذا يمكن أن نقدّم لك؟ وسوف أجيبه بعبارة وحيدة واحدة: أريد أن أدخل المدرسة، أريد أن أتعلّم”. ولحسن حظّ الصبي، أنّه وجد من يساعده في ترتيب هذه المقابلة الشّهيرة، وهو موظّف في دائرة الأحوال الشخصيّة يدعى عبد الرزاق المحمود، الذي خاطب الرئيس قائلاً: “يا فخامة الرئيس، هذا طفل جاء من أعالي الجبال، لكي ينقل إلى فخامتكم مشاعر أهل الجبل وعواطفهم. نرجوك أن تصغي إليه. فتوقّف رئيس الجمهوريّة، وأشار بالقبول. يقول مطلع القصيدة:
سلامٌ على هذا الهلال الذي يبدو وأهلاً وسهلاً أيّها الأسدُ الوردُ
حببناك عن بعدٍ وشئنا تقرّباً فكان كما شئنا ولم يَحِلْ البعدُ
تجلّد وكافح ما استطعتَ لتعتلي أنت لنا سيفٌ ونحن لك الغَمدُ
فنحن لكم زندٌ وإنّك ساعدٌ ومن عجبٍ أن يتركَ السّاعدُ الزندُ
حين انتهى من إلقائها، صفّق الناس للصّبي بحماس، واستحسن الرئيس قوله، بل واستشهد بشطرٍ شعريٍّ من قصيدته التي ألقاها للتّو، مكملاً به خطابه. الشطر الذي يقول: “فأنت لنا سيفٌ ونحن لك الغَمدُ”. ومع انتهاء مراسيم الاحتفال، قِيل له بأنّ الرئيس يريد أن يراه، وما إن قابله حتى سأله حول ما يطمح بتحقيقه. فأجابه الشاب الصّغير: بأنّه يرغب بدخول المدرسة والتّعلّم. فأجابه: “ستفعل ذلك اطمئن”. وفعلاً بعد أسبوعين أتى الدرك وأبلغوه أن يلتحق بمدرسة الفرانسيسكان في طرطوس، ثم فيما بعد التحق بالجامعة في دمشق.
لم تكن مطالب الشاعر آنذاك فقط تندرج ضمن الحقوق الفرديّة، بل كانت حقًوقاً مجتمعيّة للبلد بأكمله في تلك المرحلة الطفوليّة من عمر الدولة السورية، لبلدٍ يحاول أن ينفضَ عن كاهله غبار المستعمر الفرنسي، بعد أن نجحَ بإزاحة صخور المستعمر التركي التي رزحتْ على صدره لأربعة قرون. وظلّ الشاعر التّسعيني الكبير يتابع تحصيله المعرفي بنهم لا يعرف الارتواء، حتى الآن.
لم تكن الصّحف تُلقِي بالاً لما يوقّعه باسمه الحقيقي، حتى اتّخذ له لقب “أدونيس”. فبدأت الجرائد والمجلّات نفسها تتسارعُ للحصول على رضاه للنشر فيها. وبدأ اسم الشّاعر يسطعُ في الأوساط الأدبيّة منذ العام 1954. خصوصاً بعد نشره لقصيدته المعنونة “الفراغ”، التي اعتُبرَتْ بمثابة حدث شعري على صعيد الشكل التّفعيلي والرؤية – كما قال – وكانت صلة الوصل بينه وبين الشّاعر المجدّد، يوسف الخال، الذي كان يسعى لإحداث نقلة أدبيّة نوعيّة في الشعر والثقافة اللبنانية بعد عودته من نيويورك، متأثّراً بحركة الحداثة هناك، لتنشأ بينهما صداقة أدبية ثقافيّة وشخصيّة أثمرتْ إصدار مجلّة أدبيّة حملت لواء التّجديد آنذاك، هي مجلّة “شعر” التي تعرّضتْ لأقسى أنواع الهجوم من المثقفين والأحزاب آنذاك. واتّهم الشاعران بمعاداة العروبة والقوميّة، وأنهما عملاء لأمريكا وخونة للتراث. لكن لا عجب، فالجديد سيُحارَب دوماً على يد الجهلة والمتعصّبين. فهناك سدنة للقديم دوماً، يرغبون بإبقائه ضمن أقفاصٍ وسلاسل، حيث الشّاعر إمّا أن يكون مدّاحاً أو سجّاناً، يوزّع المدائح أو يوزّع السلاسل على حدّ تعبير “أدونيس” نفسه.
ووجهَتْ طروحات المجلّة وأفكارها الحداثويّة باستخفاف من قبل البعض، وعلى رأسهم الشاعر الكبير سعيد عقل، ولكن هناك أيضاً من أُعجب بطروحاتها والتفّ حولها مثل الشّعراء: أنسي الحاج، شوقي أبو شقرا، جورج غانم، وغيرهم. حيث انضمّوا إليها بعد صدورها بفترة، وبدؤوا بنشر نتاجاتهم المتميّزة فيها.
وكما تميّز شاعرنا بأغلب آثاره الأدبية شعراً وتنظيراً أدبيّاً، كذلك أتت ترجماته الإبداعيّة لكلّ من الشاعرين إيف بونفوا وسان جون بيرس لتضيف جمالاً جديداً لترجمات الشّعر إلى العربيّة، ولترجمة الشّعر مزالقها الكثيرة كما هو معروف، حيث حملتْ في ثنيّاتها صفتيّ الشاعر الحقيقي والمترجم الحقيقي، نظراً لما يتمتّع به شاعرنا الكبير من حساسيّة خاصّة وثقافةٍ لغويّةٍ وبلاغيّة مشبعة بجماليّات وطاقات اللغة العربيّة الكبيرة، ومعرفته الجيّدة بلغة الآخر “الفرنسيّة” حاملة لواء الثقافة العالمية في مجالات عديدة. وها هو يلخّص رحلة حصاده المعرفي والأدبي المعتّقين بكتابه الضّخم الأخير (بيروت ثدياً للضوء) “المطبوع في سورية، دمشق، دار التّكوين”، قائلاً: “لقد همتُ في أودية كثيرة وما زلتُ هائماً تائها إلى الآن، ولكن بيروت كانت هيامي الدائم، بل ولهي الأبدي، فكلّما ابتعدتُ عنها أجد نفسي عائداً إليها، فهي بالنسبة إليّ بداية ونهاية في آن. فأنا أفهمها على أنّها “عَوْد أبديّ” بالمعنى النيتشوي الحقيقي لهذه العبارة.