بيان السيد ونزار عمران في مشروع موسيقي شعري في الأوبرا
دقات الساعة المرسومة على الخلفية ووقع مؤثرات آلة البيركشن التي تدلّ على مرور الزمن البطيء تناغمت مع صوت د. بيان السيد وهو يقرأ قصيدة “لم تتصل”:
“لم تتصل/وجلستُ وحدي كالضمير المنفصل/متأملاً صمت الجهاز المتصل/وكأنني أعدو لألتقط السراب ولا أصل”
ليأخذ عازف الترومبيت اللحن الأساسي المرافق للشعر مع مجموعة من الموسيقيين (هوشنك حبش- ساز، جورج مالك- غيتار، طارق المسكي- غيتار باص، عفيف دهبر- بيركشن) في مشروع “نزار عمران والأصدقاء” بالعزف الجماعي والتداخلات الإفرادية في الحفل السنوي الذي قُدّم على مسرح الدراما في الأوبرا، باستضافة د. بيان السيد، فتلاحم الشعر والموسيقا الذي قدّم مع الأصدقاء مقطوعات عدة موزونة على التفعيلة تناوبت بين الشعر العاطفي والوطني. وقد نوّع بأساليبه الشعرية، فاعتمد تارة على المخاطبة وتارة على البوح بصوت الشاعر وضمير المتكلم، وعلى الحوارية الشعرية تارة أخرى، ويتميّز شعر السيد بالمقاربة مع الواقع وتجسيد معاناة الشعب السوري جراء الحرب الإرهابية.
الصمت اللعين
وتابع السيد قراءة قصيدة “لم تتصل” بتآلف نغمات الساز والبيركشن والترومبيت، فعبّر عن هواجسه المتعبة وجذوة الحب التي لا تنطفئ، بما وصفه بـ”الصمت اللعين”، وارتفعت طبقة صوته مع ارتفاع التدرجات الموسيقية في قفلة القصيدة التي تنهي الانتظار المؤلم ومواجهة المصير المحتوم بقوة بتوظيف فعل الأمر بلغة الخطاب الشعري:
خفّف من جنونك وانشغل/وابحث بعيداً إنها لن تتصل
ومع الطيور المحلقة على الخلفية المتوافقة مع امتدادات ألحان الترومبيت، قرأ بيان السيد قصيدة “ياطير” انسابت برومانسية مؤنسنة للعشق الوجودي، فجاءت غنيّة بالصور وبمفردات ذات بعد صوفي “واخشع على باب الجنان، واشهد نهايتك الجميلة في لهيب النور” ثم بالمقاربة بين الطير والشاعر:
يا طير مثلي أنت/ياذاك المعلّق قبل أبواب السماء/ويا غريق/يوماً حلمنا أن سنجتاز المضيق/وبأن سنعبر للنهار
البيركشن والساز
وشكّلت المقطوعات الموسيقية من تأليف عازف الترومبيت نزار عمران فاصلاً في الحفل بمقطوعة “بس تجي تشوف” المنسابة بلحن حيوي نشط، فيه دور كبير لإيقاعيات البيركشن والتدرجات بين الارتفاع والانخفاض، ليدخل الساز بلحن مرافق كصولو ثم مع الفرقة، وبدا دور الغيتار مع الساز في مقطوعة “عتب محبة”، ثم يأخذ الترومبيت موقعه اللحني مع تكثيف ضربات البيركشن في إشارة إلى العتاب، ليقفل الترومبيت بألحانه المتدرجة بجمل موسيقية صغيرة المقطوعة.
خريطة سورية
وكان لصور دمشق ومعالم سورية وآثارها على الخلفية مع تأثيرات آلة البيركشن وألحان الغيتار -جورج مالك- القريبة المتتالية، وقعها على الجمهور، ليمضي اللحن الحماسي مع الترومبيت والساز بقراءة د. السيد القصيدة الوطنية “خريطة” التي استحضر فيها تاريخ سورية وانتصارها على الغزاة والطامعين، وأكد أن خريطة سورية ستبقى كما هي كاملة رغم كل محاولات المعتدين، مبتدئاً بالتساؤل والأسلوب الإنشائي:
كيف الخريطة بدلت ألوانها شيئاً فشيئاً/وارتدت قوس القزح/هات القدح/وافرح بلونك.. مايزال لديك لون للفرح
ودعا السيد كل سوري إلى التمسك بهويته وأرضه وجذوره وخريطته بلهجة خطاب قوية تربط بين عقود التاريخ الممتدة:
فاحفظ خريطتك التي نقشت بفسحة مقلتيك/وغضّ طرفك.. لا تشوّه ناظريك/ولا تفكر بامتداد الحرب أو أمد القتال/تلك الخريطة لن يغيّرها جنون أو احتلال/ويسافر عبر الزمن بمفرداته ليستشفّ بأن خريطة سورية ستبقى كما هي:
“وخريطة الوطن التي رُسمت على الجدران/في كتب المناهج/سوف تبقى مثلما كانت/ستبقى كاملة” فتتزامن قفلة القصيدة مع صور المدن المنكوبة ومعاناة المهجّرين والأطفال الذين عانوا آلام الفقد.
انعطافات الترومبيت
وتضمن الحفل مشهدية مسرحية شعرية بطابع كوميدي بعنوان “تفاؤل حذر” تطرقت إلى الأوضاع الصعبة التي يواجهها المواطن السوري في يومياته إثر تبعات الحرب الإرهابية، إذ أخذت الآلات الموسيقية أدوارها بالشخصيات المساندة للحوارية الشعرية الموسيقية بين د. بيان السيد وعازف الترومبيت نزار عمران، الذي أبدع بالانعطافات اللحنية بالجمل الموسيقية القصيرة المرافقة للتساؤلات. فبدأ د. السيد الذي مثّل الشخصية الأساسية بإعلان التفاؤل:
قررتُ منذ اليوم تجريب التفاؤل/علّني قد أستفيد/وكبست زرّ الكهرباء/لا وهج في مصباح آمالي يشعّ ولا ضياء/ما الهم/أدمنتُ التفاؤل/ وتتتالى التساؤلات بينه وبين نزار عمران مع استغراب ألحان الترومبيت:
-حسناً وأين الدفء حولك ياغلام؟/ما المهم/إن حرارة الإيمان تلفحني بدفء مستدام/-لا موقد للطهو عندك ياحبيب/الشوق للسمراء في قلبي وقود للهيب/-لا مال عندك للثياب.. وللمعيشة والطعام/ماذا يزيد المال في الدنيا
ليختم المسرحية د. السيد بمغادرته المسرح وترديده مفردة يا سلام بصوت مرتفع:
والقناعة –مثلما تدرون- كنز ليس يفنى.. يا سلام/كنز ليس يفنى يا سلام/يا سلام/قريباً من لغة العصر
وأثنت وزيرة الثقافة د. لبانة مشوح على جمالية الموسيقا الشرقية التي تناغمت مع جمالية الشعر الذي لم يكن صعباً ولم يتصف بمفردات مقعرة، وإنما جاء قريباً من لغة العصر، وتابعت عن تكاملية الحفل بين الخلفية السينمائية والشعر والموسيقا وباح برسالة سياسية واجتماعية.
الشعر توثيق للواقع
وتحدث د. بيان السيد عن أهمية ثنائية الشعر والموسيقا وتأثيرها المدهش على المتلقي، خاصة إذا كانت الموسيقا مبنية لحنياً على النص الشعري وليست موسيقا مرافقة أو موسيقا خلفية لا تُعنى بالموضوع الأساسي، فجاءت ممتزجة مع الكلمات. ويرى أن الشعر توثيق لمعاناة المواطن لا ينفصل عن الواقع، وفي الوقت نفسه لا ننسى الحب والأمل، وعنوان الحفل والمسرحية “تفاؤل حذر” للتشويق ولكن يجب أن يكون تفاؤلنا بالغد كبيراً. وعقّب على المسرحية بأن النص يحمل بعض الكوميديا السوداء، وفَهمُ الموسيقيين للنص ساعد على تقديم الإمكانات المتاحة لإظهار الشكل الأمثل للنص الشعري الذي نرغب به.
ملده شويكاني