بريطانيا أمام مفترق طرق بعد توقيع الاتفاق التجاري مع الاتحاد الأوروبي
بعد الارتياح الذي أثاره التوصل إلى اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي يفترض أن يدخل حيز التنفيذ بعد أيام قليلة، تجد المملكة المتحدة نفسها أمام تحديات تمليها الحقبة الجديدة التي تقبل عليها كدولة خارج نطاق القواعد الأوروبية.
ونشرت بريطانيا اليوم السبت نص اتفاقها التجاري حيث تشمل الصفقة اتفاقا تجاريا يقع في 1246 صفحة، إلى جانب اتفاقيات حول الطاقة النووية وتبادل المعلومات السرية وحول الطاقة النووية المدنية وكذلك مجموعة من الإعلانات المشتركة.
وتنتظر البريطانيين تغيرات كثيرة مع خروج المملكة المتحدة في 31 كانون الأول من السوق الأوروبية الموحدة، لكن الأسوأ جرى تجنبه بتوقيع هذا الاتفاق التاريخي في أعقاب مفاوضات أثارت جدلا واسعا، والذي من شأنه الحيلولة دون ظهور مفاجئ للحواجز التجارية المكلفة وإغلاق المياه البريطانية أمام الصيادين الأوروبيين.
وفي رسالة مصوّرة، رفع رئيس الوزراء بوريس جونسون أمام شجرة الميلاد في مقر رئاسة الوزراء في لندن مئات الصفحات التي تشكّل الاتفاق وقدّمها على أنها “هدية صغيرة” للعيد.
وقال رئيس الوزراء المحافظ الذي فاز في انتخابات قبل عام بناء على وعده ب”تنفيذ بريكست”، إنّ “هذا اتفاق يوفّر اليقين للشركات والمسافرين ولجميع المستثمرين في بلادنا اعتباراً من 1 كانون الثاني”.
وكانت المملكة مستمرة في تطبيق قواعد الاتحاد الأوروبي خلال فترة انتقالية بدأت مع خروجها رسمياً منه في 31 كانون الثاني.
ويشكل الاتفاق انتصاراً لبوريس جونسون الذي شهدت شعبيته تراجعا على مدار العام بسبب إدارته المضطربة للأزمة الوباء الذي أسفر عن وفاة أكثر من 70 ألف شخص في المملكة المتحدة، بينما كان يستعد لإنهاء ملف بريكست.
ومع اصطفاف الآلاف من مركبات نقل البضائع والمخاوف من نقص المنتجات الطازجة، منح الاضطراب الناجم عن إغلاق حدود نحو 50 دولة في الأيام الأخيرة، بما في ذلك الموانئ الفرنسية والبلجيكية والهولندية، صورة عامة عمّا قد ينتظر البريطانيين في حال إخفاق مفاوضات بريكست مع بروكسل.
وقدم المفاوض الأوروبي ميشال بارنييه الاتفاق الجمعة إلى سفراء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الذين استقبلوه بشكل “رصين”، وفق ما أفاد مصدر دبلوماسي. وأوضح المصدر أنه “لم يكن هناك فرح كبير، لأن الطلاق ليس خبرا سارا”.
ومن المزمع تنظيم اجتماع جديد لبدء مسار توقيع الدول الأعضاء على المشروع. ويجب أيضا أن يقرروا تطبيقه بشكل مؤقت لأن البرلمان الأوروبي لن يتمكن من المصادقة عليه قبل مطلع 2021.
من الناحية البريطانية، دُعي النواب إلى العودة من العطل لمناقشة النص اعتبارا من الأربعاء. ولا يبدو أن تبنيه سيواجه عراقيل، خاصة وأن حزب العمال المعارض ينوي دعمه.
وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) يوم الجمعة أن اتفاق التجارة الذي توصلت إليه بريطانيا والاتحاد الأوروبي لمرحلة ما بعد انفصال الجانبين يتجاوز اتفاقه مع كندا، مستشهدة بما وصفته بنسخة كاملة من الاتفاق.
وقالت الهيئة إن الوثيقة المكونة من 1246 صفحة تتضمن حوالي 800 صفحة من الملاحق والهوامش، مضيفة أن صفحات النص القانوني ستحدد كل جانب من جوانب التجارة بين الطرفين.
وأضاف تقرير بي.بي.سي أن أحد الملحقات كشف عن تسوية متأخرة بشأن السيارات الكهربائية. وعرض الاتحاد الأوروبي إعفاء كاملا من الرسوم فقط لتلك السيارات البريطانية المصنوعة في الغالب من مكونات أوروبية. وقالت بي.بي.سي إن ذلك سيتم الآن على مراحل على مدى ست سنوات، لكنه أقل سخاء مما طلبته بريطانيا.
وأفادت هيئة الإذاعة البريطانية بأن هناك التزاما واضحا بعدم خفض المعايير المتعلقة بالبيئة وحقوق العمال وتغير المناخ عن تلك الموجودة حاليا وآليات إنفاذها.
لكنها أضافت أن للجانبين الحق في “إعادة التوازن” إلى الاتفاق إذا كانت هناك “اختلافات كبيرة” في المستقبل يمكنها “التأثير على التجارة”.
والجمعة قال برلماني بارز في الاتحاد الأوروبي من أن التجارة عبر القنوات بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لن تمضي بسلاسة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد ا كما هو الحال حتى الآن.
واوضح ديفيد مكاليستر، الذي يرأس مجموعة التنسيق مع المملكة المتحدة في البرلمان الأوروبي، لصحيفة “دي فيلت” اليومية الألمانية المحافظة في تصريحات نشرت الجمعة “لن تسير التجارة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بسلاسة بعد الآن حيث كان كلا الجانبين جزءًا من سوق داخلية واتحاد جمركي واحد”.
وتوقع مكاليستر “عواقب بعيدة المدى على الأفراد والشركات والإدارات العامة” بعد مغادرة لندن السوق الداخلية في نهاية العام.
وأوضح مكاليستر: “لدينا مسؤولية سياسية لتجنب انتقال غير منظم والحرص على أن تكون التبعات السلبية على المواطنين والشركات عند أدنى مستوى ممكن”.
ارتياح واحباط في صفوف الصيادين الفرنسيين
وبالنسبة إلى صحيفة التايمز، يشكل الاتفاق “مصدر ارتياح أكثر من كونه مصدر احتفال”. فرغم أنه يعدّ “إنجازا رائعا”، فإنّ “الخاتمة لا تزال بعيدة لبوريس جونسون. فالآن بعدما أوفى بوعده بتنفيذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، التحدي هو في إنجاح ذلك”، وفق الصحيفة.
وحذّرت صحيفة الغارديان بأن “تجنّب السيناريو الأسوأ هو إنجاز مثير للشفقة. السيّد جونسون لا يستحق الثناء على تجنبه لكارثة كانت قريبة جدا لأنه كان يتجه نحوها بحماس”.
ويتيح الاتحاد الأوروبي من خلال الاتفاق التجاري لدولته العضو السابقة وصولاً استثنائياً من دون رسوم جمركية أو كوتا إلى سوقه الضخم الذي يحوي 450 مليون مستهلك.
غير أنّ هذا الانفتاح سيكون مصحوباً بشروط صارمة، إذ سيتعين على الشركات في الضفة الشمالية للمانش احترام عدد معين من القواعد الجديدة فيما يتعلق بالبيئة وقانون العمل والضرائب لتجنب أي إغراق للأسواق. ثمة أيضا ضمانات على صعيد مساعدات الدولة.
وفيما يتعلق بالصيد، وهو موضوع ظلّ شائكاً حتى اللحظات الأخيرة، تنص الاتفاقية على فترة انتقالية تمتد إلى حزيران 2026، يكون الصيادون الأوروبيون قد تخلوا تدريجاً خلالها عن 25% من محاصيلهم.
ولم يخف ممثلون للصيادين الأوروبيين عن احباطهم من التسوية، لكن مدير اللجنة الوطنية للصيادين البحريين الفرنسيين جان-لوك هال يوفر رأى أن الاتفاق رغم كل شيء “ارتياحا لأن خطر عدم التوصل إلى صفقة كان كبيرا وكان سيمثل كارثة على الصيادين الفرنسيين”.
من الجانب البريطاني، يوجد شعور بـ”الإحباط والغضب”، كما اكد مدير اتحاد الصيادين باري ديس لوكالة “بي آي”، معتبراً أن “بوريس جونسون أراد اتفاقاً تجارياً شاملاً وكان مستعداً للتضحية بالصيد”.
وقال دبلوماسي أوروبي “لا يجب إساءة تقدير حجم الصدمة الاقتصادية التي ستتعرض لها المملكة المتحدة”. وأضاف أنه بالنسبة للقطاع المالي، المهم جداً للاقتصاد البريطاني، “فالواقع سيكون على المدى المنظور، اتباع قواعد الاتحاد الأوروبي أو العزلة”.
ورغم ذلك، فإن الاتفاق لا يمنع إدخال ضوابط جمركية وإجراءات إدارية تستغرق وقتا طويلا بالنسبة إلى الشركات المعتادة على التعاملات السريعة.
وصارت من الماضي الحركة الحرة التي تسمح للأوروبيين بالمجيء للعمل في لندن أو للبريطانيين لقضاء الوقت الذي يريدون في الاتحاد الأوروبي. كما تغادر لندن بفعل الاتفاق برنامج التبادل الجامعي “ايراسموس” ليحل مكانه برنامج الان تورنغ، على اسم عالم الرياضيات البريطاني الشهير.
وتعهد جونسون بمستقبل مشرق للبريطانيين تتيحه إمكانية عقد اتفاقات مع القوى الكبرى بحرية بعيداً عن الاتحاد الأوروبي.
وحتى الآن لم تبرم بريطانيا سوى اتفاقين مع سنغافورة واليابان، ولا يزال تحقيق تلك الرؤيا بعيد المنال، لا سيما مع عدم إبرام الاتفاق التجاري الواسع مع الولايات المتحدة الذي تعهد به دونالد ترامب.
واعتبر الدبلوماسي أن تنفيذ الاتفاق سيشكل “اختبار ثقة” تضعضعت بعد أشهر طويلة وصعبة من المفاوضات.
وهنأت إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، بريطانيا والاتحاد الأوروبي على اتفاق التجارة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قائلة إن واشنطن مستعدة لبناء “علاقات أقوى عبر الأطلسي”.
وجاء في رسالة من مسؤولي الأمن القومي بالبيت الأبيض نُشرت الجمعة، عبر تويتر:”تهانينا للمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي إبرام صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”.
وأضافت الرسالة “الولايات المتحدة مستعدة للعمل مع الجميع لبناء علاقات أقوى عبر الأطلسي في السنوات المقبلة”.
ولطالما وعد مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بإبرام صفقة تجارية جديدة مع الولايات المتحدة لتعويض خروجهم من الاتحاد الأوروبي.