نبع الحب الشفيف
سلوى عباس
كانت في أول تفتّح ربيعها عندما صارحها صديق عمها بحبه لها، فجاوبته ضاحكة: وهل اكتشفت شيئاً جديداً؟ فاستغرب جوابها وبادلها الضحك دون أية كلمة!
لم يتوقف الأمر هنا، بل ذهبت إلى والدها وبادرته الحديث بأسلوب ساخر: هل سمعت آخر نكتة؟ فأجابها والدها الذي كان سعيداً بها جداً: لا.. ما هي؟. فحدثته عن صديق عمها الذي صارحها بحبه لها، وهنا وقع الكلام على مسمع والدها كالصاعقة، وسألها بحدّة وغضب: من هو هذا الشخص؟ فتلعثمت بالنطق أمام هذا الانفعال الذي لم تعرف أسبابه، وقالت له: صديق عمي! وتابعت وعلائم الدهشة من ردّة فعل والدها ترتسم على وجهها: أليس طبيعياً أن يحبني؟ فأجابها والدها: إذا حدثك مرة أخرى في الموضوع، قولي له أن يأتي إليّ. لقد استفاق والدها فجأة أن ابنته كبرت، وهو لم ينتبه للأمر، ولم يفكر للحظة أن هذه الطفلة قد تفارقه، لكن قانون الحياة يفرض شروطه، فهذه الفتاة ستغادر أسرتها لتجد لنفسها مكاناً في هذه الحياة، وربما كما أدركت فيما بعد أن ما أرّق والدها أنها ستبعد عنه وستتحمّل أعباء الحياة وحدها.
لم تدرك تلك الصبية – الطفلة، حينها، أسباب غضب والدها، خاصة وأنها عاشت محاطة بالحب من محيطها كلّه، حتى أنها لم تكن تميّز بين محبة أهلها ومحبة الآخرين، وكأن الحب وجد من أجلها فقط، وبالتالي رأت بطلب ذلك الشاب حالة غريبة لظنها أنه من الطبيعي أن يحبها الجميع، وكانت النتيجة أن أوقعت نفسها وأهلها في مأزق، إذ تقدّم هذا الشاب لخطوبتها، واستمر حالهما فترة من الزمن حيث لم تكتمل ظروف ارتباطهما وافترقا كلّ في طريق، لكن ما بقي حاضراً في ذاكرتها موقف غضب والدها منها.
مرّت الأيام وهذه الصبية كما كل الصبايا عاشت تجربة الحب أكثر من مرة، ومع نهاية كل تجربة كانت ملامح والدها الغاضبة تحضر في ذاكرتها، ولعلّها كانت تعترف لنفسها سراً بصوابية موقف والدها، فهي منذ أن وعت الحياة والحب يكلّل حياتها حتى تجذّر في روحها وتجسّد لديها في أسمى حالات التعبير عن العاطفة، تعيشه وتتنفسه في كل يوم وكل لحظة، ومن غيره قد يضيق نفسها، وقد تختنق، فهي تراه حالة متكاملة.. حالة فرح واكتفاء تتمنّى أن يعيش الجميع معادلته الصحيحة، حتى إذا انتهى أو انكسر بالمعنى العملي، فإنه يستمر من خلالنا ومعنا وعبرنا كحالة نفسية مستمرة، حتى لو لم يكن الحبيب موجوداً بالمعنى الفعلي، لذلك كان ربيعها موقوتاً دائماً لقطرة من نبع الحب الشفيف ليورق قلبها لبلاباً وغابات محبة.
أمس.. فتحت دفاتر ذكرياتها، وراحت تقلّب صفحاتها، تقرأ فيها تفاصيل أيامها الماضية، عندما كانت مساحة الحياة تتسع للكثير من الحب والحلم، وكم توقفت عند أحاديث كثيرة دارت بينها وبين والدها بقيت تحتفظ بها شاهداً على زمن جميل مضى، زمن كانت تعيش فيه حلاوة العمر دون أن تفكر أنه ستأتي لحظة وتعيش الألم، لكن الحياة لا تصفو مشاربها لأحد، والجميع عاشوا ضراوة الهمّ بطريقة أو بأخرى، لكنها ظلّت مع كل كبوة تبحث عن يد من حنين تساعدها لتحافظ على صدقها مع ذاتها وتعيش قناعاتها بعيداً عن زيف يقتلها كل لحظة لترضي الآخرين وتخسر روحها.. لكن أصعب ما قد يمرّ على الإنسان أن يصحو على حنين لأحبة يعلم أن شاطئهم بعيد، ودهر من الغياب يقف بينه وبينهم.