مونودراما بندك بين أيديولوجيا أخطاء أبو معتوق وسجين الفراغ
حلب ـ غالية خوجة
خمسة أيام متوالية وحلب تحتفي بأدبها وأدبائها من خلال ملتقى الأديب محمد أبو معتوق، الذي شكّل بداية لانطلاقة ملتقيات نصف سنوية لأدباء وأديبات الشهباء، كما أكد ذلك الشاعر محمد حجازي مدير دار الكتب الوطنية ومدير الملتقى، والأديب جابر الساجور مدير الثقافة بحلب.
تحدث الملتقى الذي أقيم في دار الكتب الوطنية بحلب – قاعة الشاعر عمر أبو ريشة، عن كتابات أبو معتوق التي طبعها ونشرها والتي لم يطبعها أيضاً، وهذا ما نقلنا إليه بأسلوبه المتفرد الكاتب والمخرج المسرحي د. وانيس بندك عندما تحدث عن مسرحية أبو معتوق التي كتبها وهو في العشرين من عمره، ومثّل فيها بندك دور “وزير الثقافة” وكان عمره 18 عاماً، هذه المسرحية التي لم تنشر، جسّدت بعنوانها استشرافاً ترائياً عاكساً للمؤامرة الكونية الكبرى على سوريتنا الحبيبة، وكيف خُطط لكافة أشكال الفساد والإفساد الداخلي والخارجي بهيئة أخطاء تظهر غير مقصودة، لكنها تتحرك ضمن أيديولوجية مظلمة تخريبية وتدميرية ممنهجة على كافة صعُد الحياة لتكون السمَّ المدسوس في الدسم.
لقد أضاف د. بندك بعداً آخر للملتقى والمتلقي بأدائه وصوته المسرحيين، وبأسلوب حديثه عن المسرح وأبو معتوق وعن ذاته، كاشفاً عن كثير مما يحدث وراء الكواليس بدءاً من التجربة الشخصية التي تخطّت جميع العصي في العجلات، والتلاعب بإضاءة وسينوغرافيا المسرحية التي كان فيها يمثل دور وزير الثقافة في السبعينيات، وأجاب عن سؤال الملك الذي أقام ثورة على نفسه، ولكنه لم يكن يعرف إجابته: ما الفرق بين الخبز والثورة؟ ليكون جواب الوزير الذي لا يعرف الإجابة أيضاً: الخبز مدور والثورة غير مدورة!.
ثم عبر د. بندك بأحداث المسرحية وشخوصها وكواليسها إلى مسرحية أخرى لأبو معتوق “ناطحات بلا سحاب“، ليؤدي ما تراءاه منها بشكل “مونودرامي” مضاف إليه رأيه القرائي والنقدي ووجداناته التي تجسّدت بدموع عميقة أصابت الحاضرين بمدى الحزن بين الحب والألم والغربة والوطن والأخلاق، خصوصاً وأن بطل ناطحات بلاسحاب ومنذ اسمه الرمزي المجرد “سجين الفراغ” يجعلك تتساءل عن المعنى والإشارة والمفهوم وكيفية انتساج هذا الاسم مع حياته وموت الجنين الكاذب مع موت زوجته بعد عودته إلى وطنه وبعدما فوجئ بإصابتها بانتفاخ قيل: إنه حمل كاذب، رغم أنه لم يكن مقتنعاً بأنها قادرة على خيانته خلال ثلاث سنوات قضاها بعيداً عنها، ليعيد بعد وفاتها في المشفى، ترتيب حياته ومفاهيمه واكتشافه لمؤامرات الناطحات الوازرات، وأن السحاب في بلده هو الحقيقة الوحيدة التي لا تخلع أزرارها وإزارها أبداً، وتنتهي المسرحية مع صوت سجين الفراغ وهو يرفض تشريح جثة زوجته التي أحبته وأحبها: “لا، إنها زوجتي“.
حدث كل هذا ذات محكمة في المسرحية، ومع كل مطرقة للقاضي، كانت الأحداث تتشعب من خلال ما يستذكره سجين الفراغ “فلاشباكياً ـ الأثر الرجعي للأحداث“، باعتباره متهماً كونياً بالإرهاب والسبب الأساسي لذلك، ليس موت زوجته خنقاً أو ألماً، بل بسبب حنينه إلى الوطن، وحبه لوطنه والحضارات العريقة.
ركز د. بندك على العديد من النقاط في أعمال أبو معتوق المسرحية، وأهمها أنه من أوائل من كسر البُعد الرابع بين المسرح والجمهور الحاضر، وأن نصوصه المسرحية مثقفة بأبعاد تحتاج لكادر مسرحي مثقف كونه يقدم ثقافة جمعية، بلغة إشارية لمّاحة تقوم على الإسقاط العفوي، لتنجز الكوميديا الساخرة الجادة والهادفة، وإذا كنت مخرجاً ولم تقرأ السياسة والشعر والقصة والرواية والموروث والنقد لن تستطيع الدخول المتفاعل إلى أعماله، وكذلك إذا كنت ممثلاً. وأضاف د. بندك: الحوار المسرحي متفرد في أعماله، وكذلك جمله تحمل مفاهيم متعدّدة لأنه يمزج العالمي بالإنساني والمحلي، بينما تتسم نصوصه بالأفقية لا العمودية لأنه يفتّت كل شيء ويجعلك تشاركه في تركيبها وصناعتها، وهذا ما عبّرت عنه الكوميديا الزرقاء وعشر مسرحيات مائلة.
واختتم د. بندك: هناك، في الصحراء، ومنها “نيفادا“، يعلمونهم كيف يفككون الحضارات القديمة العظيمة، ومن يفكك أزراره بسهولة يفكك الحضارات القديمة التي ينتمي إليها، وهذا ما حاول ويحاول أن يفعله الإرهاب والظلام، إذن، أبو معتوق يعرف ما يريد، وأنت عليك أن تعرف أيضاً.
الثيمة الموضوعية والمباشرة
تمّت قراءة قصص مختلفة أثناء الملتقى لكل من بشار خليلي، راما أبو معتوق، فرح حويجة، إيمان كيالي، عدنان كزارة، عبد الغني مخللاتي، رياض نداف، بسام الرمال، غلبت عليها الثيمة الموضوعية من تفاصيل الحياة وضغوطاتها وانتصاراتها على الدمار خلال العشرية الظلامية الماضية، إضافة إلى إلقاء الضوء على ظاهرة الفساد والباطل، ومن ناحية أخرى، اتسمت بالتحدي والحب والآلام والمعاناة مع فسحة واسعة من التفاؤل بالبناء والإعمار وإعادة الحياة. أمّا فنياً وجمالياً، فالملاحظ أن الواقعية والمباشرة والتقليدية غلبت على الواقعية السحرية والرمزية والإشارية، مما جعل القصص المقروءة تتراوح بين القصة والمقالة، والحكاية، والسرد الفني.
قراءات لم تتوغل بعيداً
نقدياً، ورغم الجهود المبذولة من قبل المساهمين والمساهمات في المداخلات، والمشاركتين في القراءة النقدية د. بتول دراو، ود. ساندرا عفش في جلسة أدارتها الكاتبة الإعلامية بيانكا ماضية، إلاّ أن النتيجة لم تتعمق كثيراً في أسرار البنية النصية لكتابات أبو معتوق المتسمة ببطولة اللغة كشخصية رمزية فنية متداخلة مع النقدي الساخر الهادف، واليومي الشفيف العميق، والبناء الدلالي المتعانق مع الموروث والحاضر، والبعد المشهدي المتمسرح في حكاياته وقصصه ورواياته، إضافة إلى البعد البصري القائم على المشهد– الصورة، والمشهدية السيناريوهاتية التلفازية والسينمائية، إضافة إلى التشاكُل الرمزي الماضي والمعاصر.
جماليات العربية
اختُتم الملتقى بمحاضرة عن جماليات اللغة العربية، قدّمها د. عبد السلام الراغب مستخلصاً عدة محاور عن علاقة اللغة بالجماليات والفنيات كونها لغة القرآن الكريم، ودلالاتها الموحية التي لا تنتهي، وألفاظها العميقة، وموسيقاها وصوتياتها وصمتياتها، ولكنه توقف عند ضرورة تفعيل هذا الجمال اللغوي كهوية ولغة يومية في زمن يحتاج لمزيد من التحدي المعرفي والعلمي والتعليمي للناطقين بها، ولاسيما من خلال المناهج والطلاب، إضافة إلى ابتكار المبادرات.
ولا بد من الإشارة إلى مرافقة شاشة العرض لأيام الملتقى، والاحتفال بشجرة من الكتب المضاءة بمناسبة ختام أنشطة هذا العام المتحايثة مع عيد الميلاد ورأس السنة التي نتمناها انتصاراً وازدهاراً.