بايدن بين المدرسة المثالية والواقعية
ريا خوري
المتابع للمشهد السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية يدرك تمام الإدراك أنه يحمل دلالات عديدة حسب كل رئيس. ومن بين أهم الدلالات للرئيس جو بايدن أن العودة من جديد إلى طبيعة النظام السياسي الأمريكي، ستواجهها صعوبات جمة أمام استرجاع الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل أن يتربع الرئيس السابق دونالد ترامب على كرسي البيت الأبيض. صحيح أن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية تتراوح في عهود الرؤساء من جمهوريين وديمقراطيين ما بين توجه وآخر، إلا أن لكل رئيس أمريكي مساره القائم على ما يطلق عليه (المبدأ) ، ولكن في النهاية أمام الرئيس – أي رئيسٍ كان – خطاً لا يمكن أن يتجاوزه تحدده له قوى وتيارات سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية بالغة التأثير وهي هيبة وقوة ومصالح المؤسسة الصناعية العسكرية التي تقوم بإدارة الحروب والنزاعات بما يضمن استمرار التصنيع العسكري.
إن المسار القائم في الولايات المتحدة والتي يطلق عليه (المبدأ) هو اصطلاح تم استخدامه في سنوات الحرب الباردة، لتسليط الضوء على توجهات السياسة الخارجية الأمريكية، وطبيعة النظام الدولي القائم، ومن ثم حشد الرأي العام داخل الولايات المتحدة وراء هذا (المبدأ) من أجل تحقيق ممارسة سياسية خارجية نشيطة وقوية دون معوقات أو قيود.
وهكذا فإن العديد من رؤساء الولايات المتحدة على اختلاف أحزابهم ينتمون في فكرهم السياسي إلى إحدى مدرستين تتفقان معاً على مفهوم الهيمنة على العالم، إحداهما المدرسة الواقعية، والأخرى المدرسة المثالية. الأولى تؤمن بالهيمنة النسبية بعلاقات تعاقدية مع دول إقليمية والتأثير عليها وجذبها بوسائل القوة الناعمة، والثانية تؤمن بفرض السيطرة والهيمنة ولو باستخدام القوة العسكرية. ومن الذين تضمهم المدرسة الواقعية رؤساء وسياسيين كبار من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، منهم جورج بوش الأب، وبيل كلنتون، ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، ووزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر، وغيرهم كثير. أما المدرسة المثالية فإنها تضم جماعة المحافظين الجدد، إضافةً إلى قوى وتيارات أخرى من الحزب الديمقراطي.
في الممارسة العملية نجد أنه عندما استلم المحافظون الجدد المناصب الرئيسية الكبرى والهامة في إدارة الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش، الإبن، كانوا مخلصين في تجسيد أفكارهم في سياسات استخدمت فيها دبلوماسية المدفع والأسلحة الفتاكة لتحقيق استراتيجيتهم للسياسة الخارجية الأمريكية وهي السيطرة على العالم، وعدم السماح بظهور أي قوة دولية أو إقليمية. وهذا يعني بوضوح أولوية القوة العسكرية في التعامل مع أية دولة يعتبرونها عدواً ممكناً أو عدواً محتملاً.
في هذه المرحلة جاء الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، وهو من الحزب الديمقراطي، الذي يضم التيارين. ورغم أن هناك قاعدة كبيرة داخل الحزب تميل باتجاه المدرسة الواقعية، إلا أنه من الممكن تحول رئيس أمريكي من الحزب الديمقراطي نحو بعض الأفكار التي تتبعها المدرسة المثالية، مثلما فعل الرئيس الأسبق باراك أوباما، والتي تجلت بممارسة خطط ومشاريع تغيير الأنظمة، واستخدام القوة العسكرية حتى ولو عن طريق وكلاء محليين لإشعال النزاعات والصراعات والحروب الأهلية و(الفوضى الخلاقة) التي تحدثت عنها في العام 2006 كونداليزا رايس.
حتى الآن أوضح بايدن نواياه التي توحي باختلافات واضحة مع المدرسة المثالية في بعض التوجهات التي صرح بها أكثر من مرة، مثل رغبته الجامحة في استعادة العلاقات التقليدية مع الحلفاء التاريخيين (الاتحاد الأوروبي)، وهم الذين لم يهتم بهم المحافظون الجدد بمراعاة أفكارهم وطروحاتهم في قراراتهم بشأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. والأهم العودة إلى صياغة جديدة لطبيعة العلاقة مع جمهورية الصين بتخفيف لهجة العداء التي صعدها الرئيس السابق دونالد ترامب، مع مراجعة الأسباب التي أدت إلى حدة الخلافات بينهما، والسعي الحثيث لإيجاد حلول عملية لها. وأيضاً القيام بإيجاد السبل لتخفيف حدة طرق وأساليب التعاون مع جمهورية إيران الإسلامية والعودة إلى الاتفاق النووي الذي ألغاه ترامب.
حتى الآن لا تبدو الصورة النهائية واضحة لتوجهات جو بايدن السياسية، لأنها على الأغلب ستبقى رهن مراجعة فريقه في وزارة الخارجية، ومجلس الشيوخ، ومجلس الأمن القومي.