الشابكة والبحث العلمي (2)
أ.د. عصام الكوسى
أثارت المقالة السَّالفة شجونَ بعضِ أصدقائي على صفحات التواصل الاجتماعي، وظنّ بعضهم أني ضد التقدّم التقاني الذي فرض وجوده في السَّاحة العلمية بقوة، وبات وسيلةً مهمَّة في البحث العلمي، لا غنى لأي باحثٍ عنها، إذ فتحت أمام الباحث الحقيقي آفاقاً واسعة من خلال الاطلاع على آخر ما أُنجز من مواضيع علمية في العالم كله، ووفَّرتْ جهداً كبيراً في إعداد الأبحاث وإنجازها.
بيد أنّ الشابكة سلاحٌ ذو حدّين يحمل الخير ونقيضه، ففائدتها وأضرارها تحدّدُها أخلاق المرء الذي يستخدمها، فإن كرّسها للخير كانت خيرَ معينٍ له، وإن وظّفها لغير ذلك كانت شرَّ معينٍ أيضاً، فهي أسهمت في نشاط البحث العلمي عند فئة، وساعدت فئة أخرى على السّرقات العلمية والتزوير والتدليس.
إنّ عزوفَ شريحةٍ كبيرة من الطلاب عن البحث العلمي الحقيقي ظاهرةٌ بتنا نراها منتشرة انتشاراً لافتاً بين طلبة الجامعات منذ سنتهم الجامعية الأولى، فحلقات البحث حينما أُقرَّتْ في بعض المقررات الدراسية، كان الغرضُ منها تمرينَ الطالب على البحث، ودفعَهُ إلى الاطّلاع على المكتبات وتنميةَ حُبِّ الكتابِ والقراءة لديه ليكون قادراً على البحث والابتكار، فهل تحقّقَ الهدفُ المنشودُ من إقرارها؟ بالتأكيد لا، ولا ريْبَ أنّ كثيراً من الأساتذة سيشاطرونني هذا الرأي.
إنّ حلقات البحث باتت اليومَ عند فئة من الطلاب رهينة أمرين اثنين، إمَّا أنْ يتمَّ شراؤها من المكتبات المحيطة بالجامعة، وما أكثرَها، وإمّا أنْ تُسْرَقَ من الشَّابكة، بعد أنْ غَدَتِ الجدارَ الواطئ الذي علّمهم السرقة، فهي الطريقُ الأسهلُ الذي يوصلُهم إلى مبتغاهم من دون بذل أيِّ جَهْدٍ، فنادراً ما نجدُ موضوعاً بكْراً، أو لم يدرسْ غيرَ مرةٍ على امتداد المساحة الجغرافية الواسعة للوطن العربي، ولا سيّما الأبحاثُ التي تندرجُ في باب العلوم الإنسانية، فهذه الأبحاثُ متوافرةٌ في الموضوع عينه أو ما يكون قريباً من موضوعها.
ومهما حاول بعض الأساتذة اختيار موضوعاتٍ جديدةٍ، فستبقى هذه الموضوعاتُ قليلةً أمامَ الأعداد الكبيرة من الطلاب، ويبقى الفيصلُ فيها مناقشةَ الطالب، ولذلك يلجأُ من استساغ السرقة إلى بصْمها؛ لعلّه يستطيع الجواب عن أيِّ سؤال فيها.
هذا الطالبُ الذي يبدأ بحثه العلمي بهذا الأسلوب لا شكَّ في أنَّه سينهيه بالأسلوب نفسه، فهو آثرَ السّلامةَ، وسعى إلى الرَّاحة ما دامت الشابكةُ تكفيه مؤونةَ البحث والتنقيب.
لم يتوقفِ الأمر عند حلقات البحث في السنوات الدنيا، فقد طالَ طلبةَ مرحلتي الماجستير والدكتوراه، فحينما يُطْلَبُ من أحدهم أنْ يبحثَ عن موضوعٍ لرسالته، نراه يلجأ إلى الشَّابكة ليختارَ موضوعاً قريباً مما وجده على صفحاتها، ولا سيما أنّ كثيراً من الجامعات باتت تنشرُ الرسائلَ التي يعدُّها طلابُها كاملةً في مواقعها الإلكترونية.
لا مُرْيةَ أنَّ الشابكة تعين الطّلاب المجدّين والمجتهدين، فيقرؤون ويفيدون من الأفكار الموجودة في هذه الأبحاث والرسائل التي عرضتها، ويخرجون بأبحاث مهمّةٍ ونتائجَ جديدةٍ، ولكنها في الوقتِ عينه تغري ضِعافَ النّفوس، فيسلخون فصولاً كاملة مع مصادرها ومراجعها، ويضمنونها رسائلهم ظناً منهم أنّ المُناقِشَ يتعذًر عليه أن يطلع على كلِّ ما كُتبَ حول هذا الموضوع، فكم من رسالة كانت تجميعاً من عدد من رسائل متفرقة!. ولا يظنُّ ظانٌّ أنّ هذا الأمرَ وقفٌ على جامعاتنا، فكم من رسالةٍ أُعدّت في جامعات المغرب العربي سُلختْ من رسائلَ وأبحاثٍ أُعِدّتْ في جامعاتٍ من المشرق العربي!.
قرأتُ مرّة رسالةً جمعها صاحبُها من أربع رسائلَ منشورة على الشابكة، إذ جعل كلّ فصلٍ في رسالته واحدة منها، وماله فيها من جهدٍ سوى التجميع وربط هذه الفصول ببعضها، حتى الأمثلة التي أثبتها في رسالته لم يكلفْ نفسه في تغييرها، ولم يرفّ له جفنٌ.
لا مَظنّةَ أنّ بعضاً من هؤلاء الطلبة يُكشفونَ من المشرف عليهم قبلَ المناقشة، أو من أحدِ أعضاء اللجنة في أثنائها، بيد أنّ بعضاً منهم قد تمرُّ مناقشتُهم بسلام!! لأنّ المناقشَ في غمرة أشغاله الكثيرة لم يطَّلع على كل ما نُشر على الشَّابكة.
وقد يصبحُ هذا الطالبُ الذي سرقَ جهودَ الآخرين أستاذاً جامعياً، وسيسلك الطريقَ نفسها في أبحاث الترفيع من مرتبة إلى أخرى ما دامَ وجدَ الأمرَ سهلاً، وقد لا يشعرُ بالإحراج إنْ جمعَ بعضاً من حلقات بحثِ طلابه ليؤلّف منها كتاباً، وهو لا يدري أنّ بعضَها قد يكون مسلوخاً من الشابكة أيضاً!!.
إنّ السرقات العلمية غدت مشكلةً يتحدثُ عنها الأساتذةُ الذين ما زالوا قابضينَ على جمْرِ الأمانة العلميَّة، وحينما يبحثون عن الحلَ يقعونَ في حَيْرَةٍ لأسبابٍ كثيرة، لا يتسعُ المجالُ لها في هذا السَياق.
وأرى أنّ الحلّ الأمثلَ قد يكون في استعانة جامعاتنا بتطبيقات آليّة خاصة بالسرقات العلمية والانتحال في البحوث الأكاديمية، تطبقها العديد من المؤسسات العلمية والجامعية في العالم، تفحص المادة العلمية المقدمة من الطالب، وتبيّن مقدار التطابق بينها وبين أيّ مادة علمية منشورة على الشابكة، ويكون تقريرُها جوازَ مرورٍ لتشكيل لجنة الحكم والمناقشة، هذا الأمرُ سيدفعُ الطالب إلى العمل بجدِّيَّة في بحثه، ويرفع سويّة البحث العلمي في جامعاتنا التي نحبّ أن تنافسَ الجامعاتِ العالميةَ، وتتفوقُ عليها.