اتفاق بريكست.. مضمونه وآفاقه
ترجمة وإعداد: علاء العطار
انتهت الآن أحداث مفاوضات بريكست العاصفة دون أن تؤدّي إلى انسحاب دراماتيكي، كالذي حدث في محادثات سابقة، حتى لو أعطت حكومة المملكة المتحدة في بعض الأحيان انطباعاً بأنه كان عداءً يشابه ما كان بين عائلتي مونتيجيو وكابوليت، إن أردنا اقتباس شيء مشابه من مسرحيات شكسبير. تجاهل المفاوضون “الضوضاء الخلفية” ونجحوا في صياغة وثيقة قانونية كثيفة يتأرجح على كفتيها مستقبل العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
كيف أُبرم الاتفاق؟
أصرّت المملكة المتحدة خلال المفاوضات على معاملتها كدولة مساوية للاتحاد الأوروبي من حيث السيادة ويجب احترام استقلالها، ولهذا أهميته عندما يتعلق الأمر بحقوق الصيد، وهي إحدى القضايا التي يتعيّن حلها آخراً.
ظلّت تظهر مع هذه الحجة مشكلتان على الدوام، أولهما، كما أوضح وزير الخارجية الإسباني –وهو مفاوض تجاري مخضرم- وضع الاتفاقية التجارية لتأسيس تكافل عوضاً عن بذل جهد حثيث في تأكيد الاستقلال.
ثانياً، الاتحاد الأوروبي أكبر اقتصادياً من المملكة المتحدة، وعنى ذلك أن بروكسل كانت واثقة من قدرتها على الصمود أمام اضطراب الانفصال من دون صفقة بشكل أفضل من المملكة المتحدة، وعبر رفضه تمديد الفترة الانتقالية على الرغم من الجائحة، أكد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن كلا الطرفين خاضع لضغط الوقت نفسه، لكنهما لا يواجهان مستوى الخطر نفسه إذا لم يجرِ التوصل إلى اتفاق. ومن هنا كان المسؤول الحقيقي عن صفقة بريكست هو الزمن، لا جونسون ولا أنجيلا ميركل، كما ذكرت الصحف البريطانية في كثير من الأحيان.
مع ذلك، يبدو أن الحكومة البريطانية ستدّعي النصر بالقول إنها قادرة الآن على الهروب من نطاق سلطة محكمة العدل الأوروبية، بينما تفتح أمام سلعها المصدّرة إلى الاتحاد الأوروبي منفذاً خالياً من الرسوم الجمركية والحصص النسبية، ففي بيان لها تلا الإعلان عن الاتفاق مباشرة، قالت الحكومة البريطانية ذلك تماماً: تضمن الصفقة أننا لم نعد خاضعين لنطاق سلطة الاتحاد الأوروبي، ولسنا ملزمين بقواعده، ولا دور لمحكمة العدل الأوروبية، وحقّقنا جميع خطوطنا الحمراء الرئيسية حول إعادة السيادة، هذا يعني أننا سنحظى بالاستقلال السياسي والاقتصادي الكامل في الأول من كانون الثاني عام 2021.
لكن الواقع أعقد بكثير، كما هو حال كل ما يتعلق ببريكست منذ عام 2016.
في خضم المفاوضات
كان المفاوض البريطاني، ديفيد فروست، يحب أن يجادل بأن المملكة المتحدة لا تريد إلا اتفاقية تجارة حرة قياسية، كتلك المبرمة بين كندا والاتحاد الأوروبي، لكن المملكة المتحدة طلبت في الواقع أموراً إضافية، مثل الإقرار المتبادل بتقييم مطابقة السلع للمواصفات والاعتراف المتبادل بالمؤهلات المهنية، ولا يبدو أن الاتحاد الأوروبي قد تراجع عن هذه البنود.
أصرّت بروكسل كذلك على أن الصفقة تتطلّب ضمانات قانونية تمنع المملكة المتحدة من تقويض السوق الموحدة باستخدام استقلاليتها التنظيمية الجديدة لخفض المعايير البيئية أو حقوق التوظيف. وافق جونسون من حيث المبدأ على فكرة تكافؤ الفرص في الإعلان السياسي المصاحب لاتفاقية الانسحاب لعام 2019 التي حصل عليها عبر البرلمان، ثم حاول التراجع عن هذا التعهد في وقت لاحق في المفاوضات، لكنه عاد إليه مجدداً. ينصّ الاتفاق على أن الاختلاف عن معايير الاتحاد الأوروبي قد يؤدي إلى تقييد الوصول إلى السوق الموحدة.
في مؤتمر صحفي حول الاتفاق، طمأن جونسون “المتعصبين لمسألة الصيد” بأن نصيبهم في الصفقة سيكون كبيراً، لكن الصفقة تنصّ على أن سفن الاتحاد الأوروبي ستستمر في التمتّع بوصول كبير إلى المياه البريطانية خلال السنوات الخمس والنصف سنة القادمة، ريثما يجري الانتقال إلى ترتيب نهائي.
من الواضح أن حرية تنقل الأشخاص قد انتهت، بينما ستواجه البضائع ضوابط جمركية وتنظيمية. لذلك لا تزال فوضى النقل حول الميناء في دوفر احتمالاً واضحاً بعد /1/ كانون الثاني إذا فشل المصدّرون في الحصول على الأوراق المناسبة لعبور القناة، ولا بد أن يواجهوا صعوبات لأنهم لم يفعلوا ذلك منذ عقود. وقد تفضّل شركات النقل في الاتحاد الأوروبي توخي الحذر، وتجنّب مخاطر تعطل شاحناتهم في المملكة المتحدة على المدى المنظور. كما ستترك المملكة المتحدة برنامج تبادل التعليم العالي في إيراسموس، والذي سيكون بمثابة ضربة لكثير من الطلاب، على الرغم من أن المملكة المتحدة تخطّط الآن للبدء بمخطط “تورينغ” لتقديم وظائف في جامعات حول العالم.
كما أن مستقبل صناعة التصدير الرئيسية في المملكة المتحدة، أي الخدمات المالية، أقل وضوحاً، إذ تعتمد مدينة لندن خارج السوق الموحدة على الاتحاد الأوروبي ليمنحها الإذن بخدمة العملاء المقيمين في الاتحاد الأوروبي وبيعهم المنتجات المصرفية والحسابية والمنتجات القانونية المرتبطة بها. يجري مراجعة ترتيب “التكافؤ” هذا على أساس مستمر، اعتماداً على نهج المملكة المتحدة للتنظيم المالي وحماية البيانات. وهذا يضع القطاع على أساس أقل ثباتاً بكثير.
الترويج للاتفاق
انتهت رقصة المفاوضات المملّة، ولكن يأتي الآن وقت الترويج العسير. ستكون مطالبة الائتمان وتجنّب اللوم على رأس أولويات الحكومة البريطانية. ولا بد أن جونسون ملزم بالتشديد على زاوية السيادة من خلال إبراز القدرة على تجنّب تدخل قانون الاتحاد الأوروبي.
لعبة إلقاء اللوم هي المكان الذي يرجّح أن تصبح فيه الأمور أكثر إثارة للاهتمام، ذلك لأن الصفقة تتطلّب حواراً مستمراً مع الاتحاد الأوروبي حول الأمور التي يمكن أن تؤثر على شروط الاتفاقية، الدعم الحكومي مثالاً. يطلب اتفاق بريكست من كلا الجانبين الخضوع لمراجعة عامة بعد أربع سنوات للتأكد من أن كلاهما يفي بالمتطلبات. وقد يرى أعضاء حزب المحافظين، المتشدّدون والمشككون في الاتحاد الأوروبي، والذين مارسوا ضغطاً لمنع التوصل إلى اتفاق، أن هذا تنازل كبير للغاية.
ماذا بمقدور بوريس جونسون أن يفعل للتغلّب على المعارضة الداخلية؟ إن أغلبيته البرلمانية كفيلة بالتغلّب على أي شيء أقل من تمرّد كبير، لكن أقوى بطاقة لديه قد تكون ببساطة إلقاء اللوم على سلفه، تيريزا ماي، لتسبّبها في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون خطة. في الأثناء، غردت نيكولا ستورجيون، الوزير الأسكتلندي الأول، فور الإعلان عن الاتفاق بأنه: “لا يوجد اتفاق من شأنه أن يعوّض ما سلبه بريكست منا، لذا حان الوقت لكي نرسم مستقبلنا كدولة أوروبية مستقلة”. لذا، في حين أن إحدى حلقات هذه الدراما الطويلة قد تقترب من نهايتها، يبدو أن حلقات أخرى تتعلق بمستقبل المملكة المتحدة ذاته ما زالت نهايتها بعيدة.