أمريكا من الديمقراطية الكاملة إلى “المعيبة”
عناية ناصر
خفّض مؤشر الديمقراطية التابع لوحدة المعلومات الاقتصادية (EIU) حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة من “الديمقراطية الكاملة” إلى “الديمقراطية المعيبة”. لقد حاول بعض النقاد الأمريكيين الطعن في هذه النتائج، لكن إذا حكمنا من خلال الأحداث التي حدثت منذ مقتل جورج فلويد، فإن دقة مؤشر الديمقراطية التابع لوحدة المعلومات الاقتصادية استمر في إظهار الواقع اليومي للسياسة الأمريكية المتمثل في الاستقطاب السياسي والثقافي المتطرف، وتنامي تأثير الميليشيات المسلحة وعنف الشرطة، وإساءة معاملة المهاجرين غير الشرعيين، بمن فيهم الأطفال، وتهميش الأقليات في البلاد سياسياً.
لقد كشف مؤشر الديمقراطية، أخيراً، عن تدهور حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة، لأنه يستند إلى 60 مؤشراً مختلفاً، بالإضافة إلى المؤشرات التقليدية – المتعلقة بوظيفة الحكومة – شمل أيضاً مؤشرات أخرى مثل المساواة بين الجنسين والحريات المدنية و الثقافة السياسية.
وإذا حكمنا من خلال عدد وتنوع وعمق المؤشرات المذكورة أعلاه، فمن الممكن أن نفترض أن نتيجة الانتخابات العامة الأمريكية في تشرين الثاني الماضي لن يكون لها تأثير مباشر على حالة الديمقراطية الأمريكية، على العكس من ذلك، من المرجح أن تؤدي النتيجة إلى زيادة تفتيت المجتمع المنقسم بالفعل، ومواصلة تحويل المؤسسات التي تديرها الدولة في البلاد – بما في ذلك المحكمة العليا – إلى ساحة معركة للتحالفات السياسية والأيديولوجية، رغم أن الكلمة “الطنانة” طوال الحملات الانتخابية كانت “إنقاذ الديمقراطية الأمريكية”. من هنا من المرجح أن تسوء حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة في المستقبل المنظور، وذلك لأن النخب الحاكمة في أمريكا، سواء أكانت من الجمهوريين أم ديمقراطيين، ترفض الاعتراف بالأمراض الفعلية التي ألمت بالثقافة السياسية الأمريكية لسنوات عديدة.
عندما أصرت حملة السناتور بيرني ساندرز، المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة، على أن التعديلات الهيكلية الهائلة ضرورية على كل مستوى من مستويات الحكومة، رفضته المؤسسة الديمقراطية باعتبارها “غير واقعية” و “غير قابلة لطرحها في الانتخاب” إجمالاً. كان ساندرز محقاً، لأن الأزمة في الديمقراطية الأمريكية لم تبدأ بانتخاب دونالد ترامب في عام 2016، والذي كان مجرد عرض لمشكلة أكبر وطويلة الأمد. هذه هي بعض القضايا الرئيسية التي من غير المرجح أن يتم حلها بسهولة من خلال نتيجة الانتخابات، وبالتالي ستستمر في التقليل من حالة الديمقراطية في الولايات المتحدة.
فجوة اللا مساواة
إن عدم المساواة في الدخل، مصدر الصراع الاجتماعي السياسي، هو أحد التحديات الرئيسية للولايات المتحدة، خاصةً أنه يمتد لأكثر من 50 عاماً. واليوم يتفاقم مع جائحة كورونا، وتأثيرها على مجموعات عرقية معينة – الأمريكيون الأفارقة، على وجه الخصوص، والنساء، أكثر من غيرهم.
ووفقاً لدراسة أجراها مركز “بيو” للأبحاث في شباط 2020 ، فإن عدم المساواة في الدخل في الولايات المتحدة هو الأعلى بين جميع دول مجموعة السبع، وهو مصدر قلق كبير لـ 78 في المائة من الديمقراطيين، و 41 في المائة من الجمهوريين.
الاستقطاب السياسي
كما أن الفجوة الكبيرة بين الأغنياء القلة والمحرومين الكثر ليست الانقسام الوحيد الذي يخلق شرخاً في المجتمع الأمريكي، فالاستقطاب السياسي – على الرغم من أنه لا يعبر عن نفسه دائماً بناءً على ترسيم طبقي عقلاني – يمثل مشكلة رئيسية في الولايات المتحدة.
لقد نجح كل من الجمهوريين والديمقراطيين في طرح قضيتهم للحصول على دعم طبقات معينة من المجتمع الأمريكي، بينما لم يفعلوا سوى القليل جداً للوفاء بالوعود العديدة التي تقدمها المؤسسات الحاكمة لهذين المعسكرين أثناء الحملات الانتخابية. على سبيل المثال، يستخدم الجمهوريون خطاباً سياسياً شعبوياً للوصول إلى الأمريكيين البيض من الطبقة العاملة، وتعهدهم بالازدهار الاقتصادي، ومع ذلك لا يوجد دليل على أن الكثير من العائلات الأمريكية البيضاء من الطبقة العاملة قد تحسنت في ظل إدارة ترامب. وينطبق الشيء نفسه على الديمقراطيين، الذين صوروا أنفسهم، زوراً، منذ فترة طويلة كأبطال للعدالة العرقية والمعاملة العادلة للمهاجرين غير المسجلين.
عسكرة المجتمع
مع عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والاستقطاب السياسي، تتضاءل الثقة في الديمقراطية ودور الدولة في إصلاح النظام المعيب. وهذا الافتقار إلى الثقة في الحكومة المركزية يمتد إلى مئات السنين، وبالتالي، فإن التركيز المستمر على التعديل الثاني لدستور الولايات المتحدة يتركز على “حق الشعب في الاحتفاظ بالأسلحة وحملها”.
في الواقع، يعد المجتمع الأمريكي من أكثر المجتمعات عسكرة في العالم، فوفقاً لمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ، فإن ثلثي الإرهاب المحلي في الولايات المتحدة تقوم به الميليشيات اليمينية، التي أصبحت الآن أكثر جرأة وغضباً من أي وقت مضى. ووفقاً لتقرير صدر عن مركز قانون الفقر الجنوبي في تشرين الأول الماضي، هناك حوالي 180 مجموعة شبه عسكرية نشطة مناهضة للحكومة في الولايات المتحدة، ولأول مرة منذ سنوات عديدة، أصبح الحديث عن “حرب أهلية أمريكية” أخرى نقاشاً يومياً في وسائل الإعلام الرئيسية.
سيكون من غير الواقعي تخيل استعادة الديمقراطية في الولايات المتحدة نتيجة لأي انتخابات معينة، فبدون تحول جوهري في السياسة الأمريكية التي تواجه المشاكل الكامنة وراء عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والاستقطاب السياسي، يحمل المستقبل المزيد من الانقسام، وربما العنف.
الأسابيع والأشهر القادمة حاسمة في تحديد الاتجاه المستقبلي للمجتمع الأمريكي.