فرص أوروبا من بريكست
إعداد: عائدة أسعد
ها هي أجراس الانفصال تقرع بعد اقتران مضطرب دام عقوداً طويلة بين بريطانيا وأوروبا، علماً أن لندن لم ترَ في التكتل الأوروبي سوى سوق كبيرة، فماذا تكسب أوروبا بخروج بريطانيا في مجالات الاقتصاد والدفاع المشترك؟.
حسب محللون يمثل رحيل المملكة المتحدة خسارة لا يمكن إنكارها للاتحاد الأوروبي، لكن هذا الانفصال عن شريك اعتاد أن يعبر تاريخياً عن مواقف مشككة في التكتل الأوروبي قد يكون فرصة للمضي قدماً بالنسبة للكتلة التي تضم 27 عضواً.
يُفترض أن يسمح اتفاق الخميس (24 كانون الأول) بامتصاص الصدمة التي ستكون ملموسة على جانبي بحر المانش في 31 كانون الأول في تمام الساعة 23:00 بتوقيت غرينتش، توقيت الانفصال النهائي. تقول رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين: “يمكننا أخيراً وضع بريكست وراءنا والتطلع إلى المستقبل”.
بعد ما يقرب من 48 عاماً من اقتران مضطرب، يمكن للانفصال أن يعزز سياسة الدفاع المشترك. وفي هذا السياق يرى بيار فيمون الباحث المتعاون مع مؤسسة كارنيغي الأوروبية أن المملكة المتحدة لم تكن مؤيدة لمشروع الأمن الأوروبي المستقل بل دافعت دائماً عن الدور الرئيسي لحلف شمال الأطلسي، ولكن بعد الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدأت بالضبط لحظة ظهور معالم أوروبا الدفاعية.
وفي مجال السياسة الخارجية لن تبتعد لندن عن المواقف الأوروبية في القضايا الكبرى مثل البرنامج النووي الإيراني أو السياسة إزاء روسيا أو الشرق الأوسط، وأحدث مثال على هذا التقارب كان موقفها من إيران بعد إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على طهران، التي أعلنتها واشنطن من جانب واحد في أيلول الماضي، حيث انضمت إلى باريس وبرلين.
ويقول فيمون، ممثل فرنسا السابق لدى الاتحاد الأوروبي: “إن لندن سترغب في استمرار العلاقة المتميزة مع فرنسا وألمانيا اللتين لا ترغبان بالمثل في الانفصال عنها وهي تعقد الأمل على العودة من جديد للمشاركة في اجتماعات الدبلوماسيين الأوروبيين وسيلتفت البريطانيون إلى الاتحاد الأوروبي إما لإقامة علاقات ثنائية أو لمحاولة إقامة روابط مع مجموعات من البلدان مثل مجموعة “فيشغراد” التي تضم المجر وبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا.
وينبغي كذلك أن يؤخذ في الاعتبار تولي الرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن السلطة في كانون الثاني المقبل، فقد كان من معارضي بريكست، لكن حسب إريك موريس من مؤسسة شومان سيكون بايدن أقل ميلاً من ترامب إلى زرع الشقاق بين الأوروبيين.
على الصعيد الاقتصادي، وعلى الرغم من اتفاق بريكست، يخشى كثيرون أن تتسم العلاقات بالفوضى بين جانبي المانش، خاصة وأن إبرام اتفاقية تاريخية بشأن خطة التعافي بعد كوفيد-19، والتي تضمنت الاتفاق على دين أوروبي مشترك، يمكن أن يكون تحدياً مستحيلاً في أوروبا المكونة من 28 دولة.
ويقول المؤرخ روبرت فرانك الذي خصص كتاباً للعلاقات الأنغلو- أوروبية : “بوجود البريطانيين- لو تطرقنا إلى الأمر- كانوا سيقولون لا على الفور ولدى الأوروبيين إمكانات قليلة للمضي قدماً. وعلى الرغم من الاتفاق، ستتغير العلاقة التجارية بشكل أساسي بين لندن والسوق الموحدة مع وجود ضوابط جمركية ومزيد من البيروقراطية وربما سيكون هناك تأخير في سلسلة الإنتاج في القطاعات شديدة التشابك مثل السيارات أو الصناعة الكيميائية”.
ويقول الخبير الاقتصادي يانيك واتشوفياك من مركز السياسة الأوروبية: “بشكل عام ستكون الصدمة الاقتصادية أقوى على المملكة المتحدة أما الاتحاد الأوروبي فسيستوعبها على نحو أفضل. لقد نظرت المملكة المتحدة إلى أوروبا في المقام الأول على أنها سوق كبيرة وبقيت خارج العديد من سياسات التكامل مثل اتفاقية شنغن بشأن حرية الحركة أو العملة الموحدة، ومساهمتها ستكون قبل كل شيء في بناء أوروبا ليبرالية، ومع ظهور الوباء أدركنا أن الدولة ضرورية في نهاية المطاف ونحن نبتعد عن هذه الرؤية الليبرالية المتطرفة التي ندد بها العديد من المتشككين في أوروبا ككيان”.
وبمجرد انتهاء الأزمة الصحية سيتبادر السؤال التالي إلى الأذهان، هل ستنوي دول أخرى إتباع النموذج البريطاني؟. يقول النائب البريطاني الأوروبي السابق أندرو داف (ليبرالي ديموقراطي) أنه ستكون هناك توترات مع دول شرق أوروبا، وخصوصاً إذا حققت المملكة المتحدة نجاحاً، ففي الوقت الحالي حرصت كل من وارسو وبودابست، اللتين تستفيدان بشكل كبير من التمويل الأوروبي، على عدم إثارة التهديد بالخروج، لا سيما أن آراءهما العلنية مؤيدة للاتحاد الأوروبي.
إن الانفصال، الذي سيكتمل قريباً، سيسيطر على فصل جديد في التاريخ المضطرب بين الجزيرة والقارة العجوز، وربما لن يكون الأخير. يقول فيمون: “علينا الآن أن نبني بصبر على أساس هذا الاتفاق وفي جميع المجالات نسيجاً جديداً من العلاقات يسمح للاتحاد وبريطانيا بتطوير شراكة جديدة قادرة على خدمة مصالحهما المشتركة”.
أما بالنسبة لروبرت فرانك، كان البريطانيون منذ عدة قرون مرة في الداخل وأحياناً في الخارج وهذا التذبذب سيستمر ما لم يفشل المشروع الأوروبي، ولكن إذا تمكنت أوروبا بخروج بريطانيا من أن تصلح ذاتها وتعمل على نحو أفضل فيمكننا أن نراهن على براغماتيتهم ليقولوا لنا ها نحن عائدون.