المعري مبصراً منتصراً في حلب
حلب ـ غالية خوجة
بعدما أصبح رهين المحابس الثلاثة بدل المحبسين اللذين أضيفت إليهما جرائم الظلاميين في الحرب العشرية الكونية على سوريتنا الحبيبة، يعود أبو العلاء المعري مبصراً ومنتصراً في حلب، وقد أضاف إلى ملحمته “رسالة الغفران” رسالةَ الصمود والانتصار برمزية إشارية تسترجع ذاكرة الآتي، لتكتمل الرحلة بين الفضاءات الأرضية والعلوية والكلمات، خصوصاً بيت شعره الذي اشتهر به: “خفف الوطء ما أظنّ أديم الأرض إلا من هذه الأجساد”، هذا البيت الذي لو تَفكّر به كل ظالم وقاتل ومدمِّر وفاسد لتأمل في مرايا ضميره ليعرف أن الله محبة وسلام وأمان وأخلاق طيبة ولأدرك أننا من “آدم وآدم من تراب”.
أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري الذي جعل الأزمنة في آثاره الإبداعية نقطة مضغوطة واحدة تتشعب إلى الماضي والماضي العميق والماضي القادم، والحاضر القريب والبعيد والمستقبلي، والزمن الآتي قريباً، بعيداً، عميقاً، ماضياً، وحاضراً، والذي قرأه الآخر بعمق، وحاكى أعماله بأشكال مختلفة، ومنهم “دانتي أليغييري” الذي استمد قصيدته الملحمية وكوميدياهُ الإلهية من المعري “الجحيم” و”المطهر” و”الجنة”، كما استمد العديد من الأدباء تلك الطاقة وحدوسها المترائية من المعري الذي أرعب الظلاميين من شدة إضاءة بصيرته التي كتبت السرائر الإنسانية المتحركة في كل مكان وزمان.
أبو العلاء المعري الذي عاش حبيس جدران غرفته وعزلته، وكأنها “غرفة بملايين الجدران” كما يقول محمد الماغوط، وحبيس فقدانه لحاسة البصر، لم يفقد لحظة مبصرة من روحه إلاّ وثاقفها مع أعماقه الذاتية والمجتمعية والرؤيوية والإنسانية والكونية، لينتج خلاصة البصيرة المتفتـّـحة باستمرار، تماماً، كما العديد من المبدعين في كافة المجالات الذين فقدوا حاسة عضوية بيولوجية، أمثال بورخيس وبيتهوفن وهوميروس، لكنهم لم يفقدوا “وحدة الوجود والكون”، بمفهومها الشمولي، تبعاً لمصطلح الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الذي اختتم حياته في دمشق ومات فيها بعد رحلة مكانية وكونية.
المعري مع رسالة الغفران واهتمامه بالشعراء والمفكرين والفلاسفة وأخلاقهم على عكس الكثير من الكتّاب والفلاسفة الذين أبعدوا الشعراء والجمال والأخلاق عن أعمالهم كما فعل “أفلاطون” في جمهوريته “يوتوبيا ـ المدينة الفاضلة”، ربما لأنه لم يكن شاعراً ولا للحظة، المعري انتصر على كافة أشكال العتمات والظلمات الجوانية والداخلية والعضوية والبيولوجية والخارجية الفكرية، انتصر وسيظل منتصراً على قاطعي الرؤوس المتوحشين، انتصر مع حماة الوطن أينما كانوا شهداء، جرحى، جنوداً، مثقفين، فنانين، فقراء، بسطاء، وحراساً مع عائلاتهم للذاكرة المتجذرة بين القلعة ودار الكتب الوطنية والجامعة والأحياء، المعري الفيلسوف الشاعر المفكر الزاهد، سيظل محدّقاً من ضريحه الكائن في باحة المركز الثقافي العربي بإدلب، ويردد: “غير مجد في ملتي واعتقادي/ نوح باك ولا ترنم شاد”.
ثم..، ينظر إليك بابتسامة وقورة وحكيمة وأنت تدخل من باب دار الكتب الوطنية بحلب بعدما تكون قد عبرت من ساحة باب الفرج التي تتوسطها الساعة الأثرية، فيجعلك تنظر إليه وأنت تنتشل ذاكرتك من الدمار إلى التفاؤل، فيرتفع منسوب التحدي والطموح، وتعتز بانتصار سوريتك الحبيبة وحلب المبتسمة رغم جراحها، لأنها تعلم يقيناً أن المستقبل سيكون أشدّ إعماراً وإبصاراً واستبصاراً.