الملحمتان.. وهوميروس!
حسن حميد
منذ سنوات بعيدة، والباحثون يختلفون ويتفرّقون أمام مسائل فكرية وأدبية وثقافية كثيرة، وكثيرة جداً، بل يختلفون حول الأصول والفروع، وحول المعاني والمباني والغنى الأدبي والجمالي في الكتب والمدوّنات، حين يعلون شأن بعضها، ويحطّون شأن بعضها الآخر، والسبب يعود إلى أحوال وظروف وزوايا لها علاقة بالقراءة من جهة والتواريخ من جهة أخرى، وبالأهواء والقناعات والأمزجة والثقافات من جهة ثالثة، وعادة ما يُقال الاختلاف رحمة، وتعددية، وديمقراطية، ومُناخ دافئ، ولكن ضفاف الاختلاف تتباعد مع تقدّم الزمن لأن الزمن ديموقراطي يتيح الفرص، وإن على تباعد أيضاً، أمام الجميع.
من هذه الاختلافات، اختلاف الباحثين حول “الإلياذة” و”الأوذيسة” ما إن كانتا تخليقاً فردياً أم هما تراكم حكايات ومضايفات لعقول كثيرة، وما إن كان [هوميروس] هو صاحب هذه الكتابة للملحمتين، أم أن نسبتهما إليه محض لغو أو افتراض!، والحق أن هذا الاختلاف مهمّ وهو يعدّ وجهاً من وجوه الاجتهاد والتمحيص، ولكن الحق الأكثر انبلاجاً هو أن هاتين الملحمتين وقد صارتا بين أيدي الناس منذ أزمنة بعيدة جداً هما على قيمة أدبية ضافية جداً، لأن ما فيهما أدب وليس تاريخاً، أما الأدب فيبقى، والتاريخ يمضي إلى النسيان. في هاتين الملحمتين تربخ المعاني الثقيلة التي أحالها الباحثون إلى عوالم الميثولوجيا، والأساطير، والتواريخ، وفي هذا تقدير وافٍ وقيمة كبيرة لهما، وأبدى طيوف هذه القيمة أنهما ما زالتا حاضرتين في القراءة والبحث والدراسة، فهما من أهم النصوص الأدبية القديمة التي شعّت حضوراً ومكانةً في سائر أنحاء الجغرافيات البشرية، ومنها جغرافية العقول وما فيها من أسرار ومحامد.
في هذه الوقفة لن أعقد مقارنةً، مثلما فعل غيري، ما بين الملحمتين، والملاحم الفرعونية، والملاحم الشرقية، وأبرزها ملحمة جلجامش، وإنما أريد أن أقول إن اختلافات كثيرة ما بين الإلياذة والأوديسة تبدي لنا أن كاتبهما ليس من نسيج جغرافية عقلية أو إبداعية واحدة، فـ “الإلياذة”، والباحثون يعطونها ترجيحاً جلياً على “الأوذيسةط، ملأى بالدماء والحروب، وفيها يتعدّد القتلى والجرحى والأسرى، ويتعالى الأنين، والبكاء، والتوجع، وهذا ما جعل دانتي (1265 ـ 1321) يماشيه في جحيمه ومطهره إلى حدّ بعيد، بينما (الأوذيسة) محتشدة بالرهافة، والحنين، وذكر الأحباب، ورسم دروب العودة، وتذكّر الحياة الاجتماعية وما فيها من مسرات، عدا بعض الصفحات التي تتحدث عن الصراع والعراك مع الكائنات الوحشية من جهة، ومجزرة المأدبة التي اقترفها [أوديسيوس] بحق خاطبي زوجته بينلوبي من جهة أخرى، وفي “الإلياذة” انقسام عجيب وغريب للآلهة ومناصرتهم لطرفي الحرب الطروادية وصل إلى حدّ التحارب والمواجهة فيما بينهم، أما في “الأوذيسة” فالخلافات بين الآلهة موجودة، ولكنها مضت إلى حلول هينة وسهلة، واكتنفها الهدوء، والحرب في “الإلياذة” دارت بين الناس والناس في كلا المدينتين: أسبارطة وطروادة، ولكل طرف منهما حلفاء، أما في “الأوذيسة”، فالحرب دارت بين الناس والوحوش، و”الإلياذة” ملحمة للبطولة الجماعية، في حين أن “الأوذيسة” ملحمة للبطولة الفردية التي تدور حول “أوديسيوس” وأفعاله، وفي “الإلياذة” حضور طاغٍ للنساء، أما في “الأوذيسة” فالحضور لامرأة واحدة هي بينلوبي، والدوران حولها، وفي “الإلياذة” حضور لافت للشخصيات التي تمثل البطولة، أما في “الأوذيسة” فحضور الشخصيات الثانوية واسع الطيف، ومكان أحداث “الإلياذة” محدود فهو سهل طروادة وشاطئها فحسب، أما المكان في “الأوذيسة” فهو البحر، والجزر، والشواطئ، وبعض الأمكنة الأخرى، والأهم أن أسلوب “الإلياذة” أسلوب يأخذ من رهافة البراري وجمالها الكثير، أما أسلوب “الأوذيسة” فهو أسلوب يأخذ من البحر الكثير الكثير لأنه يتحدث عن مخلوقات البحر وأسرارها.
كلّ هذا يجعلني ألتحق بالآخرين لأقول ما قالوه: إن (هوميروس) ليس هو كاتب الملحمتين لسببين اثنين، أولهما: لأنهما تخليق جماعي ومضايفات تاريخية، وثانيهما: لأن الاختلاف في معانيهما ومبانيهما وغناهما.. كبير جداً!.
Hasanhamid55@ yahoo.com