ثقافةصحيفة البعث

“شو القصة” تجميل البشاعة

عندما طرح الشاعر الفرنسي بودلير (1821-1867) أطروحته الشهيرة عن “جمال القبح”، لم تكن نظريته تقف عند حدود التجميل اللغوي للقبح فقط!، فاللغة التي اهترأت من كثرة الاستخدام حسب صاحب “أزهار الشر” هي الحامل الأساسي للوعي، وبالتالي فإن كل متحدث بلغته هو حامل ومتفاعل وناقل لهذا الوعي، هذا الكلام ينسحب بمفرداته وتكوينه “السيمولوجي” على الصورة أيضاً، سواء كانت ثابتة أو متحركة “مشهداً”، وهذا ما لا ينطبق أبداً لا شكلاً ولا مضموناً على برنامج “شو القصة” الذي تقدّمه “الإعلامية” اللبنانية “رابعة الزيات” على إحدى الشاشات الفضائية.

لعنة “التريند” والتي أصبحت داء متفشياً على الشاشات وعموم وسائط السوشيال ميديا، لا يمكن تجميل بشاعتها –البشاعة غير القبح- بديكور “فخم” ووجه حسن، خصوصاً وأن البرنامج المذكور يقوم أساساً على إعادة إحياء “الصحافة الصفراء”، وذلك من خلال نقلها ونسخها عن الوسائل التي حملتها على صفحاتها الورقية في غابر الزمان، إلى “الإعلام” المرئي!، وسيذكر ويتبادر إلى ذهن كلّ من شاهد البرنامج المستنسخ عن برنامج مستنسخ أيضاً “كراجات البولمان”، حيث يجتمع المسافرون وأمامهم في أكشاك البيع تكتظ تلك المجلات والجرائد التي تحمل صوراً مشوّهة وعناوين صادمة وبشعة، لكنها كانت رائجة عند المسافر، الذي يريد أن يزجي عن نفسه خلال مسافة رحلته حسب وجهة وطول الرحلة، من بين تلك العناوين التي كان “يفبركها” صُنّاع تلك المجلات والجرائد “الصفراء”، والتي تقشعر لمجرد سماعها أو قراءتها الأبدان لبشاعتها أولاً، بغضّ النظر عن مصداقية تلك الأخبار وأمثالها، والتي هي عموماً بلا مصداقية، ولهذا سُمّيت بـ”الصفراء”.

في واحدة من حلقات البرنامج، استضافت “رابعة” شابة تخبّئ وجهها بـ”ماسك مودرن” يفي بالغرض للكورونا وللتورية، لتروي قصتها عن زوج أختها، مع حديث مقزّز ومعيب ومخجل لا يجوز أن يمرّ أو يظهر على الإعلام، راحت من خلاله تحكي تلك الشابة “مأساتها”، وأيضاً بغضّ النظر عن مصداقية الحلقة من عدمها نظراً للثغرات الكبيرة في حديث الشابة، خصوصاً وأنها كانت كما قالت تشتكي لأختها فعلة صهرها النكراء، لكن الأخت “ويا نكبات الصدف” هي إما مسافرة أو في العمل! وزوجها وأختها المراهقة وحدهما في المنزل طيلة الوقت!، عدا عن كون كل شكاياتها لأختها، لم تحرك في الأخيرة ساكناً، بحجة أنه “ساترهم” في بيته بعد أن توفي والد الأختين، بغضّ النظر عن كل هذا، فحديث كهذا مكانه ميادين القضاء، لا شاشات التلفزة، هذا اسمه “فحش” وعلى عينك يا تاجر!!.

المصيبة أن إحياء هذا النوع المسيء من الصحافة مرئياً، لم تعد تقتصر بشاعته على المسافر، والذي غالباً ما كان يرمي تلك الأوراق في سلة المهملات عند وصوله لجهة سفره، أو يتركها على المقعد، فتلك العناوين الخادشة للحياء العام، صارت على الشاشات، وأمام الجميع (كباراً، وصغاراً، ومراهقين)، ولك أن تتخيّل أيها القارئ كمية “القرف” التي صارت تنزّ من تلك الشاشات على أنها “قصة” صادمة وبشعة، وماذا يمكن لها أن تترك من أثر مدمّر في اللاوعي عند من هم في سنّ حرجة، كتلك الشابة التي بدأت قصتها مع ظهور علامات البلوغ عليها، أي منذ مرحلة بداية نهاية طفولتها الجسدية لا العقلية؟!.

اللامسوؤلية وعدم احترام مشاعر الناس بمختلف شرائحهم العمرية، هو الواجهة الحقيقية لهذا البرنامج وأشباهه، والمشكلة تكمن في عدم إدراك القيمين على هذه النوعية من البرامج الصفراء، والتي جاء من يلمعها تحت ضغط لحوح من “التريند” وكمّ المتابعة، لمدى خطورة وسوء ما يفعلون، ولعلهم يدركون لكنهم غير معنيين بالأثر السلبي لتلك السموم التي يبثونها للناس، فكل التفكير محصور في جمع أكبر عدد من المشاهدات، وبلعبة رخيصة؛ كما أسلفنا عن الديكورات الفخمة للأستديو، والاعتناء “الأوفر” بكوادر التصوير، زائد الوجه الحسن الذي يُعتبر المسوّق الأهم لهذه البرامج المزعجة، المخجلة، المعيبة.

على ما يبدو استهلك معدّو ومقدّمو البرامج التلفزيونية الأفكار السمجة التي كانت تُقدّم على أنها برامج ترفيهية، ولم يعد أمامهم سوى نبش الأفكار المهترئة من كثرة الاستخدام وإعادة تدويرها، دون العمل الفعلي على تجميل قبحها، معتقدين أن الأثاث الفخم والوجوه الحسنة، قادرة على هذا الفعل، إلا أن ما فاتهم أن ما يقدموه ليس “قبحاً” يمكن تجميله، بل “بشاعة” والبشاعة لا تجميل ينفع معها.

تمّام علي بركات