كورونا يهز النيوليبرالية الرأسمالية
عناية ناصر
هزّ وباء كورونا النيوليبرالية كمشروع اقتصادي للرأسمالية، فقد فشلت البنية الاقتصادية للنيوليبرالية القائمة على التقشّف، والتحرير، والخصخصة، والعولمة في توفير الكرامة الأساسية للحياة من حيث الصحة الأساسية والتعليم والسكن والأمن الغذائي. ولعلّ ارتفاع معدلات البطالة والجوع والتشرد هي نتاج مباشر للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي تتبعها الدول والحكومات في جميع أنحاء العالم. باختصار فشلت الرأسمالية النيوليبرالية في توفير الكرامة للعدد المتزايد من موتى كوفيد 19.
يدعو منظّرو النيوليبرالية مثل كلاوس شواب، المؤسّس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي، إلى إعادة تقييم النظام الاقتصادي العالمي على أساس الأيديولوجية النيوليبرالية لأصولية السوق الحرة التي أدّت إلى ظهور احتكارات الشركات العالمية على حساب حقوق العمال المتآكلة للأفراد. مثل هذه الاعترافات الإجرامية من منظّري النيوليبرالية هي جزءٌ من استراتيجية لإحياء شرعية النظام الاقتصادي والسياسي الإجرامي الذي سلب الكرامة من الحياة البشرية ودمّر الكوكب بحثاً عن الربح. لقد زعزع استقرار البلدان ودفع المناطق إلى الحروب والصراعات باسم نشر ديمقراطية السوق الحرة، الاسم الآخر للاستعمار الجديد، الذي يصنع عدم المساواة على نطاق عالمي.
يدافع شواب عن التنمية المستدامة والأعمال الخضراء من أجل التعافي الاقتصادي لإطلاق “الثورة الصناعية الرابعة” بمساعدة التكنولوجيا والرقمنة وضمان الالتزام الجماعي بالرأسمالية. كما يزعم بأن التقدم الاجتماعي هو نتيجة ريادة الأعمال الرأسمالية والتخصيص الفعّال للموارد من قبل قوى السوق وقدرات الرأسماليين على المخاطرة. هذه الذرائع ليست صحيحة من الناحية الواقعية، لأنها تستند إلى قصر النظر الذي تحركه أيديولوجية النظام الاقتصادي الاحتيالي المسمّى بالرأسمالية، والذي لا يوجد ذرة من الحقيقة فيه.
هذه الأفكار المتناقضة لـ كلاوس شواب لا تستند إلى جهله أو قلّة معرفته، بل إنها تقوم على تقليد طويل من الدعاية الرأسمالية واستراتيجياتها التحويلية، ما يؤكد أن جريمة الخداع فطرية في الرأسمالية كنظام اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي. لم تنتج الرأسمالية حتى الآن سوى البؤس الاجتماعي والاغتراب الاقتصادي والتهميش السياسي، مما يقضي على جميع أشكال التقدم الاجتماعي القائم على العلم والتكنولوجيا من خلال تشكيل تحالف مع القوى الرجعية والسلطوية.
إن العجز الديمقراطي هو جزءٌ من اقتصاد السوق الحر النيوليبرالي الذي يدمّر قدرات الدول والحكومات على السعي لتحقيق الرفاه الاجتماعي والاقتصادي لمواطنيها، أما مخاوفه بشأن تغيّر المناخ والاقتصاد الأخضر فمشكوك فيها بالاستناد إلى حقيقة أن نمو الرأسمالية يستند إلى تدمير البيئة واستغلال الناس. لذلك، فإن كرامة الإنسان والحرية والديمقراطية والتنمية المستدامة لا تترافق مع الرأسمالية كإيديولوجيا للاستغلال. وعليه فإن النوع الجديد من الرأسمالية ذات الوجه الإنساني والأخضر هو دعاية أخرى لإخفاء الطابع اللاإنساني للرأسمالية بجميع أشكالها، ومن هنا فإن الخطوات البراغماتية للرأسمالية في طريق مسدود، لأن الرأسمالية لا يمكن أبداً أن تكون مرنة ومتماسكة ومستدامة.
صمّم المنتدى الاقتصادي العالمي مجموعة من “مقاييس رأسمالية أصحاب المصلحة” خلال اجتماعه السنوي لعام 2020 في دافوس، واستند جوهر هذه القيم إلى الإدارة البيئية والاجتماعية. حتى سيادة القانون صمّمتها الطبقات الحاكمة وجعلتها متوافقة مع متطلبات الطبقات الرأسمالية. لهذا فإن المساءلة والشفافية خطران مزدوجان على الرأسمالية، خاصةً وأن الرأسمالية لا تتعامل مع أي نظام مسؤول وشفاف، ولهذا نرى أن نموذج الحوكمة النيوليبرالية بأكمله مصمّم لحماية المساهمين في الرأسمالية، وأنها ليست مسؤولة أمام العمال والبيئة التي تنتج ربحاً للرأسمالية. وحتى القيم المستدامة باتت لعنة على الرأسمالية، لأنها تدمّر كل ما هو مستدام. كما أن الربح في ظل الرأسمالية لا يقوم على التدمير الخلاق، إنما يقوم على الإبادة المطلقة لجميع القدرات الإبداعية، سواء على صعيدي العمل أو الطبيعة. إنها تتطلّب عمالة متكررة، والتي تعمل في إطار تنظيمي قائم على الخضوع حيث يعامل العمل والطبيعة كسلع!.
لقد فشلت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية ومشاريعها التقشفية، لكن البنية التحتية السياسيّة النيوليبرالية ما زالت حيّة ومزدهرة. كما أن الأنظمة السياسيّة الاستبدادية واليمينية تنمو وتعطي متنفساً للرأسمالية على حساب الأرواح والبيئة. لذلك، فإن أي شكل من أشكال إعادة التصور للبدائل الاقتصادية يحتاج إلى إعادة تصور النظام السياسي، حيث يحتاج الاقتصاد السياسي البديل في عالم ما بعد الوباء إلى التركيز على ظروف علاقات الإنتاج والتوزيع والتبادل. يمكن أن تعتمد السوق على العلاقة المباشرة بين المنتجين والمستهلكين بمساعدة تكنولوجيا المعلومات، لذلك تحتاج الثورة الصناعية الرابعة ونظامها الاقتصادي إلى اتباع نماذج التعاونيات العمالية القائمة على الاحتياجات البشرية والرغبات المصاحبة للاستدامة البيئية، هذه المبادئ أساسية لـ”راحة كبيرة” للاقتصاد والسياسة والمجتمع بعد الوباء. ولا شك أن التقدّم المشترك والسلام والازدهار وصحة الإنسان وكرامته والاستدامة البيئية تعتمد على القدرات البشرية للإطاحة بالرأسمالية ونظامها الفاسد.