دعوة لغداء عشق
صعبة تلك اللحظات التي تمر على المُحّب وهو ينتظر جواب الموافقة أو الرفض لأجل مبادرة ما تجاه من يحب، في الحالتين نستطيع أن ننتظر بعد الرد–بنوعيه الإجابة أو الرفض– الكثير من التعريفات والتبريرات والحكايات والقصائد الشعرية في مدح أو ذم الحالة.
انتظارك لقبول دعوة على الغداء من طرف الحبيبة لمدة ساعات أمر يحتاج إلى قوة صبر وتحمل عالية المستوى، فكيف إذا كان الامر لشهور طوال وأعوام؟
انتظرت لحظة القبول لنجلس سوية لوحدنا أنا وهي على طاولة الغداء أكثر من نصف قرن، لا بل ألف عام من تقويمات مملكة إيبلا، انتظرت تموزاً وراء تموز، وأورقت الدفلى في قلبي الصغير مئة مرة، وهي تؤجل الموعد بأعذارها الجميلة وبانشغالاتها المقدسة. والمطمئن في الأمر أن روحي وقلبي مقتنعين تماماً بأحقية أعذارها، خجلها وخفر خدودها وانشغالاتها الحقيقية كانتا مراهم تضمد جراح الانتظار كلما انفتق جرح برفض الموعد حين أطرحه من جديد سارعت لمسات أناملها على ظاهر يدي لتقول: أن لا بأس دعها للمرة القادمة.
وكلما ألححت بالسؤال ومتى تأتيني تلك المرة القادمة يجيبني ثغرها بألق: يوماً ما. حتى جاء يوم في نهاية العام المنصرم، يوم شتوي نادر أورقت فيه سنابل القمح سوسناً وأقحواناً، كقصة الفصول الأربعة حين يتدحرج الخاتم ليفتح بوابة الربيع على أكتاف كانون العجوز وقفت أمام مداخل قلبي كلها تتكىء على خشب الباب البني وقالت لي: متى أردت أنا جاهزة لأذهب معك للغداء.
اكتشفت أني نسيت كيف أتأنق لهكذا مناسبات، نسيت تفاصيل اللباقة وفن االلقاءات، وكلمات الغزل والشعر المنتقاة لتلك اللحظات طاشت مع المدى في أزمنة الانتظار..
تركت نفسي لهجمات الظروف وقلت لروحي: لتأتِ كيفما أرادت تلك اللحظات، المهم فيها أنها بقربي.
توسدت ذراعها ذراعي ومشيت في أزقة دمشق التي تربى فني الغض فيها، ورحت أشرح لها عند سور المتحف الوطني بكت ريشتي 60 لوحة، وعند جدار الكنيسة المريمية كنت أرسم العذراء بالحبر الصيني الممتاز، وتحت مئذنة العروس في الجامع الأموي صلت روحي تسعاً وتسعين صلاة لأجل لحظة قبولك النذر… أجل أنا نذرت عمري كله يا أمي لكي أرد لك عزومة الغداء هذه، عن كل غداء في كل يوم من حياتي كنت تحضرين لي فيه الطعام، لأرجع لك محملاً بطفولتي وشبابي وأغنياتي وألواني فأضع كل شيء أمام عتبة بابك وأجلس لتلقميني من وهج عينيك لقيمات يقمن صلب عودي لبقية عمري.
اليوم سجلت على جدران قلبي بأن أمي التي تحبني ولا أعرف حتى الآن كيف أحبها قبلت دعوتي على الغداء. أما التفاصيل التي مرت بطقوس تلك اللحظة فيكفي أن أقول أن كل من في المطعم كان يبكي من فرط بكاء روحي تأثراً من تلك اللحظة الخالدة في عمري، حين وقفت وسط دهشة الجميع وأمسكت كأس العصير بيدي وطرقت عليه بضع نقرات ليلتفت الجميع نحوي وأنا أطلب منهم الانتباه لي بضع ثوان فأنا لدي إعلان هام سأبوح به على مسامعهم: يا قوم باركوا لي لحظتي المقدسة هذه، لقد قبلت أمي (رغم كل انشغالاتها بي وبأولادها وبأحفادها وباهل قريتها وبوطنها وبذكرى أبي) دعوتي على الغداء، لقد قبلت دعوتي للعشق.
كل عام وأنتم وأمهاتكم بألف خير
رامز حاج حسين