في الأخلاق
عبد الكريم النّاعم
على ما في الموضوع من تشعّب واتّساع، يمكن القول إنّ الأخلاق من بعض معانيها الأمانة، والكرامة، والإيثار، وأنْ لا ترضى للآخرين إلاّ ما ترتضيه لنفسك، وبمعنى أكثر خصوصيّة هو كلّ ما ينفع النّاس، سواء أكان نفعاً ماديّاً أو معنويّاً، ويكفي الأخلاق شَرَفاً أنْ يدّعيها حتى مُفتَقِدُها، ولعلّ الكثيرين منّا يحفظ هذا البيت الشعريّ:
وإنمّا الأمَمُ الأخلاقُ ما بقيَتْ / فإنْ همو ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا
وللأخلاق أثرها العميق في حياة الأفراد والجماعات، فالفرد الأخلاقيّ لا يَظلم، ولا يَكذب، ولا يَغشّ، ولا يَخدع، ولا يُداهِن، وهو قريب من آفاق الرسالات السماويّة، والوضعيّة الرّفيعة، وحين يكثر الأخلاقيّون في مجتمع، يكثر الخير، والأمانة، وتتوطّد دعائم النّور، حتى لتظهر البرَكَة في كلّ مكان، وحين تُفتَقَد الأخلاق، ويسود الغدر، والكذب، والتملّق، والاستئثار، والضغينة، وتتفشّى أمراض اجتماعيّة تتفتّق كلّ يوم عن شياطين جدد حتى لتُصبح الحياة عبئاً، وينتشر الظلام،.. تقلّ البَرَكة، ويبدو لي أنّ لهذا الأمر علاقة ما بأزمنة نهوض الأمّة، ففي أزمنة النّهوض تكون مساحة تجسيد أخلاق الأمّة أوسع، وفي أزمنة انكسارها تنكسر هذه الظّاهرة حتى لتكاد تغيب!!
هنا لا بدّ من التّذكير بأنّ ذروة تجسيد الأخلاق، بمعانيها العالية، “الشهادة”، وبذا عُدَّ الشهيد في الأحياء الذين هم عند ربّهم يُرزقون، وهذا القول ليس إقحاماً كما قد يبدو، بل هو في الصميم لأنّ له تبعاته في حفظ الأمانة، والوفاء للدماء الشّعلة، لاسيّما فيما يتركون من زوجات وأبناء، وأنّ التّنكّر لذلك يقع في الدركات السُّفلى من عدم الوفاء، وفي ذلك من النّكوص الأخلاقي ما يحمل الكثير من الأخطار الآنيّة والمستقبليّة.
وهنا أيضاً يحضرني مثال المجتمعات الغربيّة، التي يزعم البعض أنّها بلا أخلاق!!، ولستُ بصدد هذه المُهاترة الفارغة، ففي تلك المجتمعات ثمّة التزام أخلاقيّ مُتبادَل بين السلطة المنفِّذة للقانون، والمجتمع الذي عليه الانقياد للقوانين النّافذة، فمواطنو تلك البلاد يتقيّدون بالقانون تقيّداً رائعاً، والسُّلطة تلتزم بما يُحقّق حاجيات تلك المجتمعات الماديّة والأخلاقيّة، وبذلك يحدث تناغم خلاّق، يمهّد للمزيد من الالتزام بما ينفع النّاس.
هل رأيتم على الشاشة الفضيّة الذين علّقوا أراجيحهم بين جذوع الأشجار، في ألمانيا، كيلا تُقطَع لتعريض طريق، دفاعاً عن البيئة؟!! وهل رأيتم كيف تتعامل معهم الجهات المعنيّة باحترام كبير لمطالبهم؟!.
لاشك أن لذلك علاقة بما وصلت إليه المجتمعات الغربيّة من رقيّ في جميع مناحي الحياة، كما أنّ ما نواجهه من فلتان أخلاقيّ في مجتمعاتنا، وعلى مختلف الأصعدة، هو ناتج زمن الانكسار الذي فرضتْه علينا قوى البغي الغربيّة، وعلى رأسها أمريكا ومَن يسير خلفها ولو على عماها، ولم تنجح تلك القوى الباغية بفعلها وحده، بل أعنّاها على أنفسنا بما تفشّى فينا من جراثيم أخلاقيّة فتّاكة، كالانتهاز، والكذب، ونهْب المال العام، والتردّي في المُوبقات، والتزلّف، والانطلاق من مقولة مدمِّرة مُتداوَلَة في أمثالنا، “اللهمّ أسألك نفسي”، “خربتْ عمْرتْ حادتْ عن راسي بسيطة”، بهذه الرّوح المُنكسِرة، القابلة للدّناءة وصلنا إلى بعض ما وصلنا إليه.
هذه الوقائع الظلاميّة المؤلمة يُفترَض أن لا تصرفنا عن ضرورة إعادة البناء فيما دمّرتْه تلك الحرب التكفيريّة الظّالمة، وإلاّ نكون قد قلنا للعدوّ الذي حاربناه خُذْ هذه مفاتيح البلاد فتصرّف بها كيف تشاء، إنّ ذلك متناقض جذريّاً مع حجم البطولات والتضحيات التي قدّمها أبناء هذا الشعب، لأنّ شعباً يدافع عن نفسه ضدّ حرب كونيّة، ويتمكّن من كسر حدّة الهجمة، لدرجة أنّ مفاتيح النصر ليست ببعيدة عنه،.. شعباً كهذا ليس من المنطق الوطني والقومي أن يتردّد في قطاف ثمرة النصر، وإلاّ تكون دماء شهدائه قد ذهبت هدْراً، والنصر ممكن، وليس مستحيلاً، وإنّما للنصر أدواته التي هي من روحه، في إعادة بناء ما دمّرته تلك الحرب، على مستوى بناء الإنسان كما على مستوى بناء ما دمّره الأُجَراء، وأساس ذلك كلّه إرساء دعائم الأخلاق…
aaalnaem@gmail.com