أبجدية الصمت؟!
د. نهلة عيسى
قضيت الأسبوع الماضي برمته رفيقة الدروب إلى قرانا من غرب حمص إلى غرب طرطوس، ومارست دون قصد دور الشاهدة على حاضر هجين، مزيج من قلاع وحصون وبيوت تتوسل الستر والكهرباء، وحرائق وجذوع زيتون، ودبكة وتبولة وكبة وعرق بالدين، ومناديل رؤوس الجدات وقد تحولت إلى كمامات، والقليل من الثرثرة والتضجر المعتادين، والكثير من التعلّق بحبال السماء، والدعوات، ووجوم غريب لا يحجبه مكياج الاحتفال بنهاية سنة لم تترك لها صاحباً يتحسر عليها، وأتفق على كرهها حتى الخصوم؟!
كان أكثر ما لفت انتباهي وأثار دهشتي في جولتي هذه، عزوف الناس عن الكلام، والصمت غير المعتاد الذي أشرت إليه قبلاً، عن الفضفضة والشكوى، ومن ثم تصبير الذات بالعبارة المتداولة شعبياً: “بيعين الله”، بما يعيد إلى الذهن الأسطورة العربية القديمة التي كانت تتحدث عن قرية رمت عليها ساحرة ما تعويذة، فحولت فيها الناس إلى حجارة، والأشجار والطيور والأطفال والنباتات إلى رخام، ينتحب، يصرخ دون أن ينطق، وكأنه يقول: ما نفع الكلام، إذا كانت الآذان حجراً؟!
ويبدو أن الوجع الفائض عن الحد الإنساني هو الساحرة التي حولت قرانا إلى تماثيل رخام وحجر، صمتها لبعضها، وامتداد لوعيها ولانفعالاتها، وملامحها أشبه بتقرير محايد عن واقع، لا تحتج على شيء، ولا تتقصد شيئاً، عصية على التلصص على أعماقها، وعلى التجاوب مع تفاهات الوعود التي لا تسد الرمق، ولا تسدد الديون، ولا تفسر لهم لماذا يجب أن يصبروا أكثر مما صبروا، إلا إذا كان الصبر سيعيد الأبناء من قبورهم ليكملوا أعمارهم؟!.
رفيقة الطريق إلى قرانا كنت، ولكن ما رأيته قادني إلى ما أتجنبه، وأعني بذلك التفكير بجدوى طرح الأسئلة عن كيفية الخروج من الحالة “التمثالية أو الرخامية” في بلادنا، رغم إيماني بأن الحقيقة ليست ملكاً لأحد، وأن قيمة التفكير تكمن في وجاهة ما يؤسس عليه من أسباب، إلا أن معرفتي المستندة إلى تجربة بأن لا أحد في بلادنا يسمع إلا ما يريد سماعه، وغالباً ما يكون ما يريد سماعه شيئاً آخر غير الحقيقة، تجعلني أحاول شراء نفسي من عقلي، لئلا أفقد القدرة على الاستمرار بالأمل أن هناك حلاً، وأن تعددية الأجوبة عن الأسئلة الصحيحة طريق لحل المشاكل والمسائل الخلافية.
لكن المشكلة في بلادنا الحزينة أن هناك وفرة، بل تخمة في الأسئلة والأجوبة، وأستطيع الزعم أن معظمها على كلا الضفتين رديء، لأنها تتجاهل الزمان، وتتجاهل أن البشر متغيرات تابعة، وأن كل ما يحيط بالبشر، ويرتبط بتفاصيل حياتهم اليومية، سواء كان صناعة الخالق أم المخلوق، متغيرات مستقلة تؤثر فيهم وتعدلهم وتكيفهم وتقودهم تبعاً لسطوتها ومدى نفوذها في حياتهم، وبالتالي فالتعامل مع متغير تابع باعتباره ثابتاً هو ما قادنا ومازال يقودنا إلى الرخام، صمت مؤقت يوحي بالسكينة والأبدية، يتبعه زلزال؟!.
والمشكلة الأكبر في بلادنا أننا نرفض الاحتمال الأفضل، ونبحث عن اليقين المستحيل، وفي سعينا إليه نقتل كل احتمال، ونتجاهل الممكن من الحلول، لأن ذلك يعني غربلة خواء الآراء والمعتقدات التي تراكمت في لاوعينا عبر السنين، ويعني الشجاعة في البحث عن أجوبة جديدة لأسئلة مزمنة، نجيب عنها منذ قرن بالشعارات؟!.
كنت رفيقة الطريق إلى قرانا، وكنت أظن أني كالعادة سوف أعود بأكياس من الشكوى، ولكني واجهت الأقسى، واجهت الصمت، واليأس النبيل الذي صار أسلوب عيش، واجهت الرخام، وعدت وعلى صدري ثقل الرخام مما رأيت، وكنت أتمنى أن ترفع الدموع عن الصدر الثقل، ولكن الرخام يبقى رخاماً، ما لم يبطل أصحاب القرار في بلادنا تعويذة الساحرة، بالممكن المتاح، وهو ليس بقليل فيما لو استخدمنا العقول، ومنعنا الرعي عن العجول.