ما أسرار ألوان خانجي بين رسالة الغفران وجحيم دانتي وفاوست غوته؟
حلب- غالية خوجة
تتخذُ الأنوات الضمائرية حضورها المتنوّع بأشكال أخرى، في أعمال التشكيلي المبدع محسن خانجي، ومنها الذات الموزّعة إلى مجموع، لتشكّل انطباعاً بمونولوغ داخلي يجمع الحزن والفرح والعتاب والأمل والحلم والأمنيات، كما يعكس تحوّلات هذه الأنا بين الذاكرة والحاضر، الواقع الملموس والواقع المجرد، والوهم والمنطق، منجزاً روايات لا تنتهي بين الكائنات والموجودات والرموز مثل المرأة كرمز دلالي لكل أنا وذات، للأرض والتبدلات، للأحلام وحمامة السلام والوطن والآلام، ومن جهة أخرى، تبرز الكينونة الظلامية لكل فرد بهيئة شرّ قد يجسّدها الشيطان والدمار والخروج عن الوعي إلى جهة أكثر تعباً وانحرافاً وظلاماً.
وضمن النسق القرائي، نلاحظ كيف تتنوّع الأعمال المعروضة، لكنها تتخذ شكل التراث المتعانق مع حداثته من خلال العديد من الدلالات اللونية المميزة لأعمال خانجي بوضوح، ومنها اللازوردي وتدرّجاته وإيحاءاته، والترابي بظلاله الزاهية والغامقة، والأرجواني وتحولاته المدلولية، والبنفسجي ومتغيّراته الإضائية، والأصفر وحركته الصاعدة حتى احتراق الأشعة الكامل، أو انطفائها الكامل.
إذن، يعتمد خانجي على خماسية لونية بمجمل إشاراتها وتشكّلاتها ومتصيراتها ليمنح أعماله استمراريتها الزمانية، وأبعادها الغائرة في عمق المشهدية، والنافرة من فضائها الذي تبصره وهو على قيد التشكّل الدائم، فيلمح قارئ اللوحة نسقاً من الدلالات الغائمة والمائية والنارية والترابية، تتآلف مع مفرداتها المدخَّنة لتعطيك إحساساً بالزمن التراثي العتيق، وهذا ما يضفيه على عناصر بعض الأدوات مثل إطار المرآة، والنافذة والأبواب والملابس الفلكلورية والاكسسوارات، بينما تكتمل الزركشة الشرقية مع النقوش الأصيلة المنشغلة بدقة هندسية وبصرية، ولا تخفت ملامح شخوصه بين الدلالات، بل تبدو أكثر إضاءة وهي ترسم تعابير الوجه الأنثوي المختلفة لترمز إلى حالات الإنسان والمدينة والأفكار والأحلام.
أمّا الصراع فيحضر بتنويعات رمزية بين إبليس الذي هو الأنا المظلمة للكائن الشرير، وكأنه يحيلنا بإشارة ما، إلى “فاوست” الشاعر غوته، أو جحيم “دانتي”، كما تبرز البنية الدرامية المضادة في لوحات أخرى مثل رمزية البحث في أعماق البحر عن شعلة السماء من خلال حجر لازوردي مائل إلى الزمردي، معلّق بسلسال يصل بين أعماق الموج والسماء، وكأنّ هذا الحجر مرساة الشمس النازلة إلى سمكتين تتقاربان.
وترحل بنا لوحة أخرى إلى حالة عرفانية تراثية، تمثلها ملامح البطل المحدق في كل من يحدّق باللوحة، وكأنه يدعو الجميع للغوص أكثر في الذات من أجل البحث عن الهالات المكنونة بين الروح ومقاماتها، موقناً أن الكون نقطة وقد تصير حروفاً وكلمات وأبعاداً خطية تناسب الغوص الفردي للروح بين الذات وذاتها، وهذا يذكرنا بفلسفة “التاو” وكيفية التأمل التي توصلنا إلى ألوان الشعاع وتدرّجاته ليتفتّح زهرة “لوتس” متخلياً عن النقطة الصفراء التي هي الأرض، وهذا ما تشمله بكل تأكيد حالات التجلّي والتخلّي.
وتقابل هذه اللوحة لوحة أخرى بطلتها صامتة ومتكلمة، وشاح رأسها منسدل بأمان، وعيناها مغمضتان لتجسّدا الغوص أكثر إلى الأعماق، وملامحها تبدو متأملة الروح بتحولاتها وطيرانها وطمأنينتها، وهي تترك نثارها حمامة بيضاء للسلام والأمان تقف على الكتف الأيمن للبطلة، وتدير رأسها إلى الشرق بأمان، بينما تبرز الكلمات بحكمة على إطار اللوحة توحي بالمسافة بين الحياة والموت، كما توحي بالأمل وهو يشعّ من عقد البطلة وحجرها اللازوردي المائل إلى الزمردي، وكأنّ هذا الحجر ولونه وتدرّجاته وشكله الأقرب إلى الدمعة، سرّ من الأسرار الرمزية للفنان خانجي، توحي دلالاته بالشعاع والضوء والنصر وإطفاء القلق والتمازج مع الفضاء العلوي بتهاويله وسلامه وألوانه وإشاراته الحاضرة والغائبة، المتناغمة مع ألوان اللوحة بين تدرّجات النبيذي والترابي والأصفر والأحمر والأبيض، وتجعلنا نستحضر، بمفهوم ما، رسالة الغفران للمعري.
وهذه الشخصية تظهر في لوحة أخرى بجناحين شمعيين، وعينين مفتوحتين، يغطي رأسها وجسدها وشاح بنفسجي وفستان أحمر، تجلس على كرسي أثري قديم مشجّر بزخرفة ورسومات، وكأنه تيجان أحد الأعمدة الأثرية في تدمر أو قلعة حلب، بينما نظرتها الشامخة تدلّ على تفكير عميق بين الأنا والآتي، تؤكده وضعية جلوسها الموحية بانتظار واستعداد لشيء ما قد يكون صريحاً واضحاً، أو دلالياً غامضاً، واللافت أن سلسالها المؤلف من 9 أحجار لازوردية مشوبة بالزمردي دائرية الشكل، تتحرك إلى الأمام كناية عن هبوب ما لا يصيب ثنيات الثوب أو الوشاح، فأية نسمات قوية حركت السلسال ورفرفت قليلاً بالأجنحة؟ لعلّها لوحة تحمل إشارة ما إلى الكون والمجرة والمرأة السورية التي تقود الأزمنة عبْر التأريخ.