بحضور كورونا.. علاقات اجتماعية تتلاشى وتواصل عبر الشبكة
بكثير من الخجل وقليل من المزاح، تمنّع أحمد عن استقبال جاره الذي كان يودّ زيارته، الأمر الذي دفعه للحديث عن هذا الموقف أمام زملائه في الوظيفة كي يبرّر تصرفه هذا، ويسدّ الباب أمام باقي زملائه كي لا يفكروا بزيارته في المنزل، فالوضع المعيشي الصعب وعدم قدرة الموظف على تأمين مصروف أسرته جعل استقبال الضيف هذه الأيام عبئاً ثقيلاً على أغلب الناس، لتُلغى الزيارات والعلاقات الاجتماعية من قوائم الكثيرين ممن لا طاقة لهم على تحمّل أعباء “الضيافة” لضيوف وزوّار مهما كانت درجة القربى والمودّة معهم.
منحى سلبي
تحت عباءة الكورونا والخوف من انتقال العدوى أغلق معظم الناس أبواب منازلهم بوجه جيرانهم، لتقتصر العلاقات اليوم على ابتسامة المجاملة، لأن الحديث المباشر أيضاً ينقل العدوى، في حين نجدهم في أماكن عملهم منخرطين بشكل طبيعي مع الجميع متناسين العدوى والمرض، ونحن هنا لا نتحدث عن سلبية التباعد، بل على العكس فهو يعدّ ضرورة فرضها الوضع الراهن، لكن اللافت للانتباه هو استغلال هذا الوباء من منحى سلبي لتفقد الروابط الاجتماعية مكانتها بين أبناء المجتمع، ويحلّ محلها التباعد الاجتماعي شكلاً ومضموناً، فلم يعد الجار يتمنّى رؤية الأفضل لجاره وحلّت مقولة “صباح الخير يا جاري أنت بحالك وأنا بحالي” مكان “الجار قبل الدار”، فكم من نزاع نراه اليوم بين جيران الحارة نفسها أو حتى الطابق نفسه على أمور بسيطة لم يكن يُؤخذ لها حساب في السابق، لكن مع ازدياد هموم الحياة ومشكلاتها فقدت هذه العلاقات متانتها.
الحرب والتطور التكنولوجي
صور محزنة لما آلت إليه علاقات الجيران هذه الأيام، فكثير من حالات الوفاة نسمع عنها بعد وفاة الشخص بأكثر من أسبوع في منزله دون أن يعلم أحد من الجيران شيئاً عن وضعه نتيجة عدم التواصل بين أبناء الحارة أو البناء الواحد، ويعيد الكثير من الناس تدهور هذه العلاقات لفقدان الطيبة من نفوس الناس وإحلال الحسد والنميمة مكانها، ناهيك عن تغيّر الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتطوّر التكنولوجي الذي أدى لحلول التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي محلّ هذه العلاقات، كذلك ساهمت الحرب في تغيير هذه الروابط لدرجة كبيرة من خلال التهجير وانتقال الكثير من العائلات من مناطقها إلى مناطق مختلفة في عاداتها وتقاليدها، الأمر الذي زاد من حالة البعد بين الجيران، وعدم تقبّل الكثير من سكان المناطق الأساسية للسكان الجدد.
مفاهيم خاطئة
علاقة الجار بالجار تعتبر أساس تكوين المجتمع الكبير الذي ينطلق من هذه العلاقات، التي إذا بُنيت على أسس صحيحة نصل إلى بناء مجتمع سليم. ويؤكد الدكتور عبد الرزاق المؤنس”دكتور في الشريعة” على أهمية غرس الآباء حب الخير والإيثار وتقديم المعونة للجيران في نفوس أبنائهم، إلّا أن ما نلحظه هذه الأيام هو تلقي الأبناء من آبائهم الأنانية والعنف والكره للغير، وبناء العلاقات على أساس المصالح المتبادلة، وهذا يقود لمجتمع مليء بالأمراض النفسية والاجتماعية، ففي وقت المحن يكون الجار القريب أفضل من الكثير من الأقارب البعيدين أو رفاق المصالح الذين غالباً لا يتواجدون وقت الشدائد. وألقى المؤنس اللوم الأكبر لما وصلنا إليه اليوم من علاقات اجتماعية سيئة على الأهل أولاً وعلى وسائل الإعلام ثانياً والتي تُدخل عبر برامجها ومسلسلاتها مفاهيم خاطئة ومُستقاة من الغرب عن هذه العلاقات.
انعزالية وانطوائية
كذلك تحدثت رشا شعبان “علم اجتماع” عن هروب الناس هذه الأيام من تكوين علاقات اجتماعية، سواء من ناحية الجيران أو حتى في أماكن عملهم، لأسباب كثيرة منها الضغط المعيشي وعدم وجود الوقت والمال الكافي لاستقبال الزوار بعد أن انخرط أغلب المواطنين بأكثر من عمل خلال النهار كي يستطيعوا تأمين مستلزمات المعيشة، كذلك هناك من يخشى من الاختلاط بالآخرين كي لا يطلعوا على أسرار البيوت وإفشائها. وترى شعبان أيضاً أن العلاقات بالجوار تغيّرت حالياً عمّا كانت عليه سابقاً نتيجة خروج المرأة للعمل وعدم بقائها في المنزل، فأغلب النساء في السابق كنّ ربّات منزل، لذا كنا نجدهن يسعين لإقامة علاقات بالجوار وقضاء الأوقات الكثيرة، لكن مع خروجهنّ للعمل لم يعد هناك متسع من الوقت لإقامة علاقات جوار، إذ سيطرت الانعزالية والانطوائية على أغلب المواطنين، ولم يختلف وضع هذه العلاقات في الريف عن المدينة التي بدأت تنعدم فيها العلاقات الاجتماعية شيئاً فشيئاً تحت الأسباب ذاتها.
ميس بركات