الكوميديا السوداء بين الأدب الساخر والجاد
“نجواك تسبيح وصدرك معبد، أنت المليكة بالجمال”، مفردات قرأها د. محمد عامر مارديني وزير التعليم السابق بصوته الذي تتعدد به أصوات شخوص قصته التي تنم عن هجائية، وسخرية لاذعة، ومرارة قاسية، وفكاهة مبكية، كما قال المتنبي: “ضحكك كالبكاء سكبت عليها الدماء دموعاً”، وعن سمات الأدب الساخر الذي عبّر عن قسوة الواقع والظلم الاجتماعي، في الندوة التي أقيمت بالمركز الثقافي العربي- أبو رمانة- بعنوان: “في رحاب الأدب الجاد والساخر”، بإدارة ومشاركة الأديب سامر منصور.
وثمة خطوط نستشفها قد تلتقي بالأشواك الواخزة، وبالإسقاطات الرمزية، والملفت أن المرأة كانت الوجه الظاهر حيناً، والخفي حيناً.
المرأة الشيطانية
وقد أصغى الحاضرون بشغف إلى قصة د. مارديني الذي اشتُهر بكتاباته القصصية الساخرة، وزاد من جمالية قصصه أداؤه الموحي بالمشهد الدرامي، وتمكنه من تقنيات القص، والدمج بين السرد والحوارات المقتضبة والوقفات الوصفية، ففي قصة “عباد الآلهات”، يحكي عن رجل ملحد “كانت له عبادات كثيرة، تارة يعبد شمساً، وتارة ملكاً”، إلى أن وقع بغرام جارته: “ما إن رأيتها على الشرفة تنشر غسيلها حتى كرهت كل الآلهات”، والمفارقة التي باح بها السارد أن صديقه انقلب حاله وأصبح ناسكاً متعبداً: “صديقي الملحد يرتدي عباءة، ماذا حل بك؟”، ويتساءل بينه وبين نفسه: “كيف انتقل إلى واحة الإيمان”، ويبوح الرجل لصديقه الكاتب بأنه هام بجارته وهامت به فتزوجها، وجعلته يكفر بكل الآلهات التي عبدها، ويختار طريق الله لأفعالها الشيطانية، وسيذهب إلى الحج، وتأتي القفلة المدهشة بقراره: “سأبقى بجوار الكعبة الشريفة، وزوجتك؟ الله سيأخذ الجميع”.
لعبة السارد
وتفاعل الحاضرون أكثر بالقصة التي انتقد فيها د. مارديني المشهد الثقافي، وصعود كثيرات ممن لا علاقة لهن بالثقافة المنابر في قصته “طحالب ثقافية”، ومنذ اللحظة الأولى شد الحاضرين بوصفه الدقيق للشابة الثلاثينية البدينة، لكنها جميلة المحيا التي ستختصر بمحاضرتها عصارة تجربتها، إذ كتبت المسرحية والقصة، ومارست رياضات معينة، وسافرت إلى الهند والسند، واغتربت في أوروبا، وتتقن لغات عدة، وشغفها الموسيقي جعلها تتعلّم العزف على العود، وكله بفضل والدها، والمفارقة أن السارد لم يقتنع بسيرتها، لغتها ضعيفة، اللحن فيها واضح، وتتكلم العامية، لا أسماء ولا أعلام، والناس يتأثرون بذرف الدموع، والمفارقة أنه جلس بجوار رجل كبير بالسن، وبدأ الحديث معه، لا أظنها تتمتع بكل المواهب التي تقصها علينا، الله وكيلك أقسم إنها مدعية.
وتتالت لعبة السارد بالتضييق على المحاضرة بانهمار الأسئلة التي تكشف ادعاءاتها الكاذبة، وتوضح بردة فعلها ارتباكها بأسلوبه الساخر اللاذع، وفي الوقت ذاته تشتد المناقشة بينه وبين الرجل الذي ضاق بثرثرته: “تنعت والدها بالرجل العظيم، لقد رباها على الكذب”، فيجيبه بحنق: “كفاك ثرثرة”، ويفاجئنا بقفلته المدهشة أن الرجل الذي بجانبه هو والدها!.
المرأة والأفعى
ثم انتقلت الأديبة تغريد ريشة إلى رمزية ودلالات وإسقاطات تختبئ خلف سطور دمجت بين الأدب الجاد والساخر بقصتها “الأميرة الرمادية” التي تبنى على الدمج بين الواقعية والفانتازيا التخيلية، وتدور بين السرد والوصف والحوار، فبدأتها بالوصف الدقيق لسمات شخصية أسعد النعمان، متوقفة عند عمامته البيضاء، الذي جاء إلى القرية، “جلس وقدم له الحضور كرسياً خشبياً، جلس وفتل شاربيه، وطلب كأساً من اللبن”، ثم كشفت صرخة الكاتبة التي تسرد القصة من وحي ذكرياتها أن الحبل الرمادي هو أفعى سامة، وتابعت بسرد قصة الأميرة الرمادية التي كانت ابنة ملك أجبرها والدها على الزواج من ابن الملك المجاور لإنهاء النزاعات، فعاشت حزينة، “كانت تهرب إلى مغاور الجن وتلتقي بالجني الذي أحبته”، فرآها زوجها فدعا عليها أن تصبح بثوب أفعى، برمزية إلى قوة الرجل وضرورة خضوعها للرجل، وأصبحت رمزاً لكل امرأة تغضب زوجها فتتحول إلى أفعى حتى امتلأ تل سيانو بالأفاعي اللواتي حرسن المملكة وكنوزها، وقيل إن الكنز لا يظهر إلا على وجه امرأة ثم تموت.
واقتربت ريشة من الواقع المعاش بقصتها “مازال يفكر” من خلال حكاية موظف يسرد يومياته الحياتية الصعبة، والضائقة المالية التي يعانيها: “إذا فكرت في نزهة فمن أين النقود، إضافة إلى مشاحناته مع مديره رئيس الدائرة، وتدور القصة حول سرقة جهاز الهاتف الأرضي لزميله “جاري الذي لم تسمه زميلاً”، والسجال الماكر والساخر بينه وبين مديره الذي يتربص أخطاءه، “نظر المدير إليه نظرة جانبية”، وصدر القرار بمعاقبته وعودته للعمل بالمستودع بتهمة عدم احترام مرؤوسيه، فيفكر بطل القصة بالانتحار.
فانتازيا بين العصور
أما مشاركة الأديب سامر منصور بقصة اغتيال الزمان فجاءت مختلفة، إذ تدور في أفلاك الخيال العلمي والفانتازيا القصصية بتخيّل السارد اختراع آلة للسفر عبر الزمن تعود به إلى الأزمنة الموغلة بالقدم، وتدور حول شخصية الحجاج الذي يحاول المبدعون التقرب منه، ليقنع القارئ بأنه التقى بدافنشي الذي رسم مرضعة الحجاج، ثم بيتهوفن ومقطوعة “وجهك لا ضوء القمر، وأرخميدس “وجدتها الصهباء ناقة الحجاج التي تاهت”، وتتالت الصور المتخيلة عن اينشتاين وآخرين التي أضحكت الحاضرين، إلى أن دخل السارد المكتبة المروانية ليطالع بين رفوف الكتب فوجد كتاباً بعنوان: “الطرق الأكثر فاعلية بتفسير الأحلام، والجامع المانع في طبخ الكوارع، المأكل المفضل لمولانا الحجاج”، فقرر السارد تحطيم آلة الزمن: “سأحطم آلة الزمن، ما نفع سيرورة دون سيرورة”.
كما ألقى الشاعر الشاب جود الدمشقي مجموعة مقطوعات شعرية “قبلة حلال وعشاق القراءة”، واقترب بالتهكم بشعره الساخر من واقع الموظفين والدائنين بقصيدة “الموظف أبي”.
أدب ذكي
اقتصرت الندوة على القراءات، ووصفت تغريد ريشة في حديثها لـ “البعث” الأدب الساخر بأنه أدب ذكي كونه يوصل الفكرة بطريقة إضحاك المتلقي، وهو فن عالي التقنية، وتابعت: من خلال قصة الأميرة الرمادية أردت إيضاح فكرة ترهيب المرأة من الرجل، وإلصاق كل شيء سيئ بالمرأة، والقصة واقعية، فأسعد النعمان شخصية مقاربة لشخصية حقيقية عاصرتها في قرية مجاورة لقريتي لرجل يربي الأفاعي ولا يخشاها.
واقع الفن الثري
وتابع سامر منصور بأن قصته تدور بين ما هو علمي وتراثي من الماضي، إذ تم جمع القامات الإبداعية في الزمن الماضي، ولكن يفاجأ مخترع آلة الزمن بأن إبداعاتهم اتجهت باتجاه السلطة ضمن إطار ضيق، وهذا يمكن إسقاطه على واقع الثراء بمهرجانات عالية التكلفة تقتصر على الفن الترفيهي العبثي الذي يحل مكان الفن الهادف وحرية الإبداع.
ملده شويكاني