سيد درويش.. بدأ حياته الفنية من دمشق
لم يكن غريباً أن يولد سيد درويش في الاسكندرية في مصر، فهي المدينة المحرّضة على الانطلاق، المحفّزة على التجديد، الثرية بإيحاءات الإبداع، كان ميلاد الشيخ “سيد” في حي كوم الدكة، عام 1892، والده هو درويش البحر، وكان يعمل نجاراً، والدته هي ملوك، وشاء القدر أن يرحل أبوه، وهو في السابعة من العمر، ولأنه الولد الوحيد بين ثلاث بنات، تعلم “سيد” تجويد القرآن ثم درس في مدرسة سامي أفندي، حيث ترسخ لدى الشيخ الصغير حب الأناشيد الوطنية التي كانت تقاوم الاحتلال الإنكليزي وتحضّ على النزعة الوطنية الشعبية.
حينما كان يؤذن الشيخ سيد درويش في المساجد، كان يلقى استحساناً لجمال صوته، وعذوبة أدائه، لكن كان عليه أن يجهض ميوله الفنية حتى لا تفوته عن كسب الرزق وإعالة أمه وأخته، لكن القدر الذي منح سيد درويش موهبته الفذة، لن يتحمّل طويلاً إهدار هذه الفرصة، وكانت الفرصة الأولى حين كان يشتغل الشيخ سيد في إحدى ورش البناء مغنياً سمعه الفنان سعيد عطا الله، الذي أسّس مع أخيه أمين عطا الله فرقة غنائية وطلب منه السفر إلى دمشق للاستئناس برأي الموسيقيين السوريين والاطلاع على فنهم الجميل في الموسيقى العربية الأصيلة، في الشام حرص سيد درويش على الاستفادة من الخبرات المتنوعة لأعظم الموسيقيين وأشهرهم عثمان الموصلي الذي ولد في مدينة الموصل العراقية وسكن مدينة حلب، وكان يمتلك أكبر فرقة موسيقية في ذلك الوقت، وحينما عاد سيد درويش إلى مصر كانت رؤيته المحدودة قد حدّدت طريقها والتي كان عمرها الفني الحقيقي من 19/ 6/ 1923، أي سبع سنوات فقط، ويدهشنا كيف استطاع ذلك الشاب الاسكندراني أن يصنع “ثورة” حقيقية، في الغناء العربي والموسيقى العربية في مدة سبع سنوات فقط، وكيف في هذه الفترة البسيطة قد ترك لنا ميراثاً كبيراً من الأغنيات والألحان!.
كان لسيد درويش الفضل في تخليص الموسيقى العربية من سيادة المذاق التركي المهيمن، لأول مرة وبعد زمن طويل أصبح هناك موسيقى عربية نابعة من وجدان الشعب العربي المصري بصورة خاصة بكل فئاته وقطاعاته، فقد غنّى للبنائين والسقايين والجرسونات والشيالين والصنايعية والفلاحين والموظفين والباعة المتجولين والنساء، هذا ليس معناه أنه كان يعادي الانفتاح، بل كان سيد درويش من أنصار إثراء آفاق الموسيقى المحلية بالموسيقى الغربية وكان حلمه الكبير السفر إلى إيطاليا لدراسة الموسيقى الأوبرالية، لكن القدر لم يمهله لتحقيق هذا الحلم أيضاً، وكان سيد درويش أول من استخدم آلات الأوركسترا الغربية في الموسيقى الهارمونيا الغربية في الموسيقى العربية، وحينما كان يسأل لماذا تركت (التخت) كان يقول (مثلما خلعت الجبة والقفطان ولبست البدلة)، لقد غنى سيد درويش كل أنواع الموسيقى العربية (الموشح، الطقطوقة، المونولوج، الأوبريت الغنائي، المسرحية الغنائية)، لم يهمل التطريب، لكنه أدخل فن التعبير الموسيقي كهدف أساسي، الغناء عنده كان حقاً لكل الناس، وليس حكراً على البعض، ولا ننسى أنه كان مطرب ثورة 1919 التي قادت حركة المقاومة الوطنية ضد الإنكليز ومن حظ مصر أن سلامها الوطني هو (بلادي بلادي) للشيخ سيد.
يمكن أن نقول الكثير عن سيد درويش، وقد يكون من أجمل ما كتب عنه قصيدة لنزار قباني: يقول نزار في قصيدة بعنوان “موسيقى”:
أمطار أوربا
تعزف سوناتات بتهوفن
وأمطار الوطن
تعزف جراحات سيد درويش
وأنا بدون تردد
مع هذا الاسكندراني
الذي يضيء في حنجرته قمر الحزن
ومآذن سيدنا الحسين
توفى سيد درويش عام 1923 تاركاً إرثاً موسيقياً وغنائياً كبيراً.
د. رحيم هادي الشمخي