دراساتصحيفة البعث

الأمريكيون يعيشون في وهم كبير

إعداد: علاء العطار 

عاد جو بايدن ومديرو الأنظمة في الدولة العميقة -أو الإمبراطورية العميقة- إلى السلطة، ويستعد ترامب وزمرة المهرجين والعنصريين والمحتالين والفاشيين لمغادرة البيت الأبيض، وبدأت شركات الأدوية الأمريكية في نشر اللقاحات للتخفيف من أسوأ انتشار لـ كوفيد 19 في العالم، والذي راح ضحيته ما يزيد عن 2600 وفاة يومياً. وبحسب زعم بايدن، باتت أمريكا جاهزة لتأخذ مكانها على رأس الطاولة، ويؤكد لنا أن “الديمقراطية انتصرت” في معركة استرداد “روح أمريكا”.

لكن الدرس الحقيقي الذي يجب أن يتعلّمه الأمريكيون من صعود الديماغوجيين أمثال ترامب، ومن الجائحة التي أثبتت أن صناعة الرعاية الصحية الربحية غير قادرة على احتوائها، هو أنهم فقدوا السيطرة كدولة عظمى وكبشر. وسيولد ديماغوجيون أكثر خطورة بكثير من رحم السياسات الإمبريالية والنيوليبرالية التي ستتبناها إدارة بايدن. وسوف تجتاح الأوبئة العالم بمعدلات إصابات ووفيات أعلى، وهي نتيجة حتمية للتدمير العشوائي للنظام البيئي الذي نعتاش عليه والأصناف الأخرى.

كتب رينهولد نيبور: “إن أحد أكثر الجوانب إثارة للشفقة في تاريخ البشرية هو أن كل حضارة تعبّر عن نفسها بغطرسة، وتجمع قيمها الجزئية والشاملة بقناعة ما بعدها قناعة، وتنشد الديمومة في اللحظة التي يبدأ الصدأ فيها ينهش وجودها ويؤدي بها إلى الهلاك”.

الإدارة المنتظرة

حدّدت تعيينات بايدن بشكل شبه حصري دوائر الحزب الديمقراطي ونخبة الشركات والمسؤولين عن اللامساواة الاجتماعية والصفقات التجارية وتراجع التصنيع والشرطة العسكرية ونظام السجون الأكبر في العالم وبرامج التقشف التي ألغت البرامج الاجتماعية وإحياء الحرب الباردة مع روسيا والرقابة الحكومية الشاملة والحروب التي لا نهاية لها في الشرق الأوسط وحرمان الطبقة العاملة من حقوقها وإفقارها.

وتشمل قائمة مسؤولي الإدارة الجديدة الجنرال المتقاعد لويد أوستن الذي رشح لمنصب وزير الدفاع، وهو عضو في مجلس إدارة شركة “ريثيون تيكنولوجيز” وشريك في “باين آيلاند كابيتال”، وهي شركة تستثمر في صناعات الدفاع. وتضمّ أيضاً أنتوني بلينكين، مرشح لمنصب وزير الخارجية. كان بلينكين نائب مستشار الأمن القومي ونائب وزير الخارجية، وهو من أشد المؤيدين لدولة الفصل العنصري في فلسطين المحتلة، وكان أحد مهندسي غزو أفغانستان والعراق ومؤيداً للإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا.

وستتولى جانيت يلن منصب وزيرة الخزانة، والتي كانت رئيس البنك المركزي الأمريكي في عهد باراك أوباما، وأيدت يلن مجلس المستشارين الاقتصاديين في عهد بيل كلينتون، ومارست ضغطاً من أجل وضع مقياس إحصائي جديد يهدف إلى خفض مدفوعات الضمان الاجتماعي لكبار السن، ودعمت “التيسير الكمي” الذي تخلّى عن ضحايا الاحتيال المالي، ومنح قروضاً بلغت تريليونات الدولارات من دون فوائد تقريباً إلى وول ستريت، والقروض المستخدمة لإنقاذ البنوك والشركات والمشاركة في عمليات إعادة شراء ضخمة للأسهم.

ومن المقرّر أن يتولى وزير الخارجية السابق جون كيري حقيبة المناخ. أيّد كيري التوسع الهائل في إنتاج النفط والغاز المحلي إلى حدّ كبير من خلال التكسير الهيدروليكي، ووفقاً لمذكرات أوباما، عمل كيري بإصرار على إقناع المعنيين بأزمة المناخ لـ”تقديم تنازلات بشأن الإعانات المالية لصناعة الطاقة النووية وفتح المزيد من الخطوط الساحلية الأمريكية للتنقيب عن النفط في الخارج”.

وستصبح أفريل هاينز، نائب رئيس وكالة الاستخبارات المركزية في عهد أوباما، مدير الاستخبارات الوطنية. أشرفت هاينز على برنامج أوباما الموسّع والقاتل للطائرات المسيّرة في الخارج، ودعمت ترشيح جينا هاسبل لرئاسة وكالة الاستخبارات المركزية، على الرغم من تورط الأخيرة المباشر في برنامج التعذيب الخاص بوكالة الاستخبارات المركزية. واختير برايان دييس، المدير التنفيذي الذي كان مسؤولاً عن “حقيبة المناخ” في شركة بلاك روك، التي تستثمر بكثافة في الوقود الأحفوري، بما في ذلك الفحم، وعمل مستشاراً اقتصادياً سابقاً لأوباما، ودعا آنذاك إلى إجراءات التقشف، اختير لإدارة السياسة الاقتصادية في البيت الأبيض.

واختيرت نيرا تاندين، وهي مساعدة سابقة لهيلاري كلينتون، مديراً لمكتب الإدارة والميزانية. جمعت تاندين عندما كانت تعمل رئيساً لمركز الأبحاث التابع للحزب الديمقراطي ومركز التقدم الأمريكي الملايين من “الأموال الخفية” من وادي السيليكون وول ستريت، وهي أموال تجمع بغرض التأثير في الانتخابات، تجمعها المنظمات غير الربحية دون أن يطلب منها الكشف عن هويات الجهات المانحة. تشمل الجهات المانحة لها بين كابيتال وبلاكستون وإيفركور وول مارت ومقاول الدفاع نورثروب غرومان.

روسيا

إن إدامة إدارة بايدن للحروب الكريهة وللسياسات النيوليبرالية المرهقة سيصاحبها شيطنة محمومة لروسيا، والتي ألقي اللوم عليها مؤخراً في الهجمات الإلكترونية. ستشنّ الشركات الديموقراطية حرباً باردة جديدة على روسيا لتشويه سمعة النقاد المحليين والأجانب وصرف الانتباه عن الركود السياسي ونهب الشركات للبلاد. وسيسمح لقناة ” MSNBC” ولصحيفة نيويورك تايمز، اللتين قضتا عامين في الدفاع عن مؤامرات “روسيا غيت” الفارغة، بنشر الشائعات المشحونة عاطفياً والاتهامات المشبوهة حول روسيا بوتيرة يومية.

مسألة النظام البيئي

إذا أراد الأمريكيون إنقاذ النظام البيئي، عليهم إبطال سيطرة الشركات على القوة الاقتصادية والسياسية العالمية، ويعدّ تدمير الغابات المطيرة بفعل رعي الماشية، وزرع مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية المخصّصة لزراعة المحاصيل الأحادية لإطعام الحيوانات الموجهة للاستهلاك البشري، مسؤولاً عما يصل إلى 91 % من دمار غابات الأمازون منذ عام 1970، وهو أكثر ما ساهم في تغيّر المناخ.

وإيمان الأمريكيين بقدرتهم في الحفاظ على مستويات الاستهلاك الحالية والتوسع الرأسمالي والحروب الإمبريالية والاعتماد على الوقود الأحفوري والخضوع الشديد لقوة الشركات غير المقيدة، الذي عزز أسوأ تفاوت في الدخل في تاريخ البشرية، ليس شكلاً من أشكال الأمل، بل خداع للذات يؤدي إلى التهلكة. لا يتجه الأمريكيون في ظل سياسات إدارة بايدن والنخبة الحاكمة العالمية نحو مستقبل جديد مزهر، بل نحو الشقاء الاقتصادي والهجرات المناخية الشاسعة وموجات من الأوبئة الفتاكة الجديدة، إلى جانب انهيار أنظمة بيئية لا رجعة فيه وأشكال مخيفة من الانهيار المجتمعي والاستبداد والفاشية الجديدة.

والاحتباس الحراري أمرٌ حتميّ، لا يمكن إيقافه، ربما يمكن إبطاؤه في أحسن الأحوال. وعلى مدار الخمسين عاماً القادمة، يرجح أن ترتفع درجة حرارة الأرض إلى مستويات تجعل أجزاء كاملة من الكوكب غير صالحة للسكن، وسيتشرد عشرات، وربما مئات الملايين من الناس، وستنقرض ملايين الأنواع، وستغرق المدن الواقعة على الساحل أو بالقرب منه، بما في ذلك نيويورك ولندن.

وحقيقة أن المحيطات تمتصّ معظم فائض ثاني أكسيد الكربون والحرارة من الغلاف الجوي يرفع درجة حرارة مياه المحيطات وزيادة حموضتها بسرعة، ما يؤدي إلى نزع الأكسجين من المحيطات. سبق كل حالة من حالات الانقراض الجماعي الخمس المعروفة على الأرض جزء واحد على الأقل مما يسميه علماء المناخ “الثلاثي القاتل”، وهي ارتفاع درجة حرارة المحيطات وتحمضها ونزع الأكسجين منها.

تبعات ترامب

بعد أربع سنوات من الأكاذيب وإذكاء العنف العنصري والعجز المذهل والفساد المستشري والفشل الذريع في التعامل مع أزمة صحية وطنية، وسّع ترامب قاعدته بـ 11 مليون صوت، وهذا يوجب أن يومض ضوء أحمر كبير في أذهان الأمريكيين. الأسوأ من ذلك أن 70 ٪ من ناخبي ترامب، 51 مليون أمريكي، يعتقدون أن “الديمقراطيين اليساريين الراديكاليين” والدولة العميقة تلاعبوا بالانتخابات من خلال “تزوير الناخبين”. انضم مائة وستة وعشرون عضواً من أعضاء مجلس النواب الجمهوري إلى دعوى قضائية رفعها 18 من المدعين العامين الجمهوريين يطلبون فيها من المحكمة العليا إلغاء انتصار بايدن. ورفضت الغالبية العظمى من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الاعتراف بنتائج الانتخابات بعد تصويت تشرين الثاني. نتيجة لذلك، أُجبر ناخبو الهيئة الانتخابية في عدة ولايات على تسليم أصواتهم إلى المجالس التشريعية للولايات تحت حراسة مسلحة. ونزل ما يقرب من عشرين متظاهراً مسلحاً يحملون الأعلام الأمريكية ويهتفون “أوقفوا السرقة”، ونزل سبعمائة من أعضاء الجماعة القومية البيضاء “ذا براود بويز” إلى شوارع واشنطن للاحتجاج على السرقة المزعومة للانتخابات، ما أدى إلى اعتقال أكثر من ثلاثين شخصاً وأربع عمليات طعن وتخريب أربع كنائس وتمزيق لافتات “أرواح السود تهمنا” وحرقها.

ربما بات رحيل ترامب عن البيت الأبيض قريباً، لكنه ترك وراءه حزباً مستبداً بشكل علني، رافضاً للمعايير الإنسانية، وعدواً للخطاب القائم على الحقائق، وحاول الانقلاب، وفي المرة القادمة لن يكونوا غير منظمين وينزلوا دون تخطيط. لن يتبدّد هذا العداء بل سينمو، خاصة وأن مطرقة الاضطراب الاقتصادي تضرب البلاد.

ختاماً

أدى هجوم الشركات المستمر منذ عقود على الثقافة والصحافة والتعليم والفنون والجامعات والتفكير النقدي إلى تهميش وتجاهل أولئك الذين يتحدثون بهذه الحقيقة. رُفض هؤلاء المنذرون واستبعدوا من النقاش الوطني باعتبار أنهم مختلون ومتشائمون. والبلاد الآن غارقة في هوس الأمل، الذي تقدمه الإدارة بسخاء على حساب الحقيقة، وهذا الوهم هو الذي سيودي بالأمريكيين إلى التهلكة.

كتب الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ عما سمّاه “التفوق العقلي للمهزوم”، إذ حاول يائساً مع حفنة من الكتّاب والفنانين تحذير الناس من الحماقة الانتحارية التي اتسمت بها الحرب العالمية الأولى. توضح مسرحيته المناهضة للحرب، وعنوانها “إرميا”، أن أولئك الذين يواجهون الواقع، مهما كانت مرارته، قادرون على تحمّله والسمو فوقه، وهي مسرحية مستوحاة من قصة نبي ذكرت في الإنجيل، واسمه إرميا، الذي أخذ يحذر الناس من خطر داهم دونما طائل.

يصرخ النبي في المسرحية قائلاً: “استيقظي أيتها المدينة المنكوبة لتخلصي نفسك.. اصحوا من سباتكم الثقيل أيها الغافلون لئلا تذبحوا وأنتم نيام، اصحوا لأن الجدران تتهاوى وسوف تسحقكم.. اصحوا”. لكن تحذيرات “النبي الباكي” قوبلت بالتجاهل والسخرية، وهوجم بذريعة إفساد أخلاق الناس، وحيكت مؤامرات لقتله، ومن ثم وضع في غياهب السجن.

وكتب زفايغ في مذكراته: “كنت أنجذب دوماً لإظهار كيف بإمكان أي شكل من أشكال السلطة أن يقسّي قلب الإنسان، وكيف يمكن للنصر أن يصيب عقول أمم بأكملها بالتزمت، وهذا يخالف القوة العاطفية للهزيمة التي تحرث طريقها داخل الروح بصورة مؤلمة وفظيعة، ففي خضم الحرب، بينما كان الآخرون يحتفلون بالانتصار في وقت مبكر جداً، ويثبتون لبعضهم بعضاً أن النصر كان محتوماً، كنت أسبر وقتها أعماق الكارثة وأبحث عن طريقة للخروج منها”.

لن يذوق الأمريكيون طعم الأمل إن رفضوا مواجهة الحقيقة، فكل أمل تمتد جذوره في تربة خداع الذات المالحة ما هو إلا وهم كبير. والجدران تضيق عليهم شيئاً فشيئاً، فالشر الذي واجهوه في عهد ترامب حقيقي، وسيظل حقيقياً في عهد بايدن، وإن لم يدحروا هذا الشر، سينتظرهم عذاب وهلاك جماعي.