“الحدس” اختراق مهمّ في عالم الرواية العربية
تذهبُ بعض أهم المذاهب النقدية العالمية، إلى اعتبار فنّ الرواية، فعل خلق إبداعي أولاً، بغضّ النظر عن نوعها، وهذا الفعل يقوم أساساً على اعتماد الخيال كأداة عظمى لإنجازه، تتبعه مفرداته التالية كاللغة، التقنية، المزاج العام، والخيط السحري الناظم للسرد الروائي. ووفق هذه الرؤية النقدية للعمل الروائي عموماً خلال مراحل تطوره، بداية بالأسطوري والملحمي ومروراً بـ”الحكائي” بأنواعه المتعدّدة، وليس نهاية بما هو عليه من فن، يتفق الجميع على معاييره مع اختلافهم على جوهره، يحقق الشاعر والروائي العربي الأردني “نور الدين شبيطة”، في روايته الأولى “الحدس”، الصادرة عن دار “الآن ناشرون وموزعون- عمان” اختراقاً مهماً في فن الرواية العربية الحديثة، خصوصاً وأنها لم تحقّق حتى اليوم من جهة الكمّ والنوع، ما يمكّننا من القول إن لدينا “رواية عربية” -رغم ظهور العديد من الروائيين العرب الذين خاضوا في هذا المجال- وهذا الاختراق الذكي يجيء أساساً على مستوى فكرة الرواية، وأيضاً في المعالجة الأدبية والفكرية وحتى الفلسفية لها.
الكاتب يتخذ من المستقبل -سنة 2094-، مسرحاً تدور فيه أحداث روايته، التي تنتمي لعالم “الخيال العلمي”، وفيها يتعامل مع معطيات الواقع التقني والثورة التكنولوجية الحاصلة في العالم، كأرضية صلبة للانطلاق صوب مفازات مستقبلية متخيلة يبتكرها “شبيطة” من خلال القراءة الخاصة به لهذه المعطيات، وما سينتج عن علائقها القائمة اليوم بين الإنسان والتقنية التي أنجزها، وصارت تتدخل بشكل مفصلي بمختلف مناحي الحياة، سواء في الغرب أو الشرق، وإن كانت لم تزل عندنا في العالم العربي، في حدود أضيق، وهنا يجيء هذا الاختراق الفعّال من جهة الموضوع، الفكرة، في بيئة لم تزل مفرداتها الروائية غير مكتملة الأركان وبالتالي الرسوخ كفن. أما الإبداع الفني بمختلف تفاصيله، فيكمن في الأسلوب السردي الرشيق الخاص بـ”نور” في تقديمه لأحداث الرواية، وذلك من خلال اشتغاله الدقيق على: نوع الحكاية، الحبكة، بناء الشخصيات، اللغة الرياضية الرشيقة والتي جاءت متجانسة تماماً مع باقي العناصر، وكونه شاعراً منحازاً وبشدة لقصيدة العمود، فلا بد أن يترك شيئاً من أثره الشعري في “الحدس”، لكن بانضباط شديد، وبتقشّف، وذلك لإدراكه كشاعر وكاتب خطورة الشعر على الأجناس الأدبية الأخرى عموماً والرواية بشكل خاص لجهة نوعها أولاً، وثانياً لجهة معالجته الفكرية للعوالم الخيالية التي خاض بها، -هذا النوع من الأدب لا يحتمل اللغة الشعرية ولا تحتمله- وكأنها مكعب “بزل” لا يكتمل تجانسه إلا عندما تكتمل الصورة النهائية، وإن كان استشراف المستقبل بناءً على دراسة معطيات الحاضر والماضي ثم الربط مع مفردات اليومي بكليته واستنتاج مفردات هذا المستقبل، هو من أهم ما يمكن للمبدع أن يقدّمه في نتاجه الإبداعي –الروائي هنا بشكل خاص-، فإن رواية “الحدس” حققت هذه النقلة المهمة، وذلك من خلال خوضها في الواقع المُتخيل الذي تقدمه كصيغة مستقبلية قادمة لطبيعة الحياة وشكلها، وبهذا أيضاً يكون تعريف أو أحد تعاريف الرواية بكونها فعل “خلق” أولاً، ينطبق على هذا العمل الأدبي، الذي يقدم شبكة دقيقة من الأفكار الفلسفية والمقولات الاجتماعية بشقيها العلمي والشعبي، والحقائق العلمية، سواء تلك المغلقة أو المفتوحة والممسوكة بإتقان شديد، وقد يؤخذ هذا على فن خطير كالرواية، لكن مع هذا النوع من الأعمال الأدبية التي لها طابع رياضي، -كل الفنون تسعى لأن تصبح رياضيات- سيدرك القارئ أن هذا الإتقان هو جوهر التقنية السردية، التي تقدم المعلومة بتتالٍ يمكن وصفه بالسهل الممتنع، شخصيات لها أكثر من بعد رمزي، حبكات متلاحقة، رشيقة، مترابطة، موضوع شيق، لغة رياضية يلجم اندفاعها القليل من الوصف الشعري الساحر.
تبدأ الرواية بالسؤال الذي خيّم طويلاً على خيال الشعراء والفلاسفة وحتى أهل العلم، أيهما هو الحقيقة؟ هل هو الواقع أم الحلم؟ هذا السؤال لن يذهب الكاتب للتعاطي معه وفق منطق “الشك”، بل من منطلق اليقين في التفريق بين كلّ من العالمين، فلكل عالم منهما معطياته التي يستنتجها الكاتب من خلال الشخصية الرئيسية “أرود”، الذي ينتمي إلى أسرة عربية هي من أعضاء الحركة “الاستعادية” التي تتعامل، حسب زمن الرواية ومفرزاته التكنولوجية المخيفة، بحذر شديد مع السيطرة المهولة للآلة على مناحي الحياة وبمختلف تفاصيلها بناء على الملاحظة الشخصية، والخيوط المتشابكة التي ستنقل الجواب الدراماتيكي عن السؤال السابق، رغم تشعبها وتنقلها تارة بين الواقع ومعطياته وتارة بين الحلم ومعطياته المختلفة أيضاً، إلا أنها خيوط ممسوكة بدقة وبنهج يجمع ما بين العلمي والأدبي في منطق السرد المسبوق بالتحليل والاستقراء والاستنتاج، وإن كان الميلُ لدى الكاتب في “الحدس” للجانب الاستنتاجي هو الأكثر هيمنة على عمله، وهذا من المآخذ على فن الرواية، الفن الذي يعلي من الشأن الأدبي ومفرداته على ما غيرها، إلا أن طبيعة ونوع الرواية، ما كان لها أن تحقّق السمعة الطيبة التي حققتها “الحدس” بُعيد طرحها للقراء، لولا أنه تعامل بحرفية مع تلك الثيمة الجديدة في عالم الرواية العربية لا العالمية، وفي هذا ما يؤكد مرة جديدة وجهة النظر الصائبة لجهة التعامل مع الفكرة وفق معطيات المرحلة ببعديها العربي والعالمي أيضاً.
“الحدس” رواية لن تستطيع كقارئ مهما كانت صفتك، أن تدعها قبل أن تتأكد أكثر من مرة إن كنت انتهيت من القراءة أم أنك لا زلت عالقاً في واحدة من الحبكات أو الأحلام التي ينسجها نور الدين شبيطة ببراعة وذكاء لا يتنازل للحظة واحدة عن حدّته واتقاده في كل مفرداتها.
تمّام علي بركات